المهرج ( الحزن الدفين )
أبى إلاّ أن يقطع المسافات سيراً على الأقدام على الرغم من اعتصار قلبه الحزين وأنفاسه الممزقة. إلاَّ أنه كان مصمماً على أن يجر قدميه المثقلة ويبذل جهداً كي يسرع في خطواته ليصل بالوقت المناسب. وما أن وصل على مقربة من مسرح الأطفال. وجد الأطفال يتوافدون بإقبال برفقة ذويهم وهم فرحين مسرورين. يقف لدقائق معدودات وهو يراقب بسمات الأطفال ووجوههم البريئة الضاحكة النقية الصافية غير المشوهة بَعْدُ من متاعب الحياة ومظالمها. ليتوجه بعدها إلى الباب الخلفي مسرعاً بخطواته نحو غرفته.
يرمق في المرآة فيرى ذاك الوجه المتعب المثقل بالهموم. فيلامس بلطف بعض خصال من شعر المنثور على رأسه دون تنسيق بسبب أنامل الهواء التي عبثت به كما هواها دون رقيب. ليبدأ على الفور في خلع ثيابه ولبس الثياب المناسبة لدوره كمهرج يضحك الأطفال ويلامس بلطف عواطفهم وأحاسيسهم الرقيقة الطيبة. رجع مرة أخرى للمرآة ودفن مشاعره داخل فؤاده النازف منذ الصباح الباكر من هول الصدمة التي أصابته لحظة سماعه ذاك النبأ المفاجئ.
مسح دموعه ومد يده وتناول علبة التلوين / المساحيق / ويبدأ بالرسم على مساحة وجهه ملامح ذاك الرجل البسيط الذي لا يعرف سوى اتجاه واحد في الحياة. والنطق بما يفكر به وما يخطر على باله دون تردد أو حرج أو تجميل. وما أن أنهى ما كان يصبو إليه. نظر في الساعة المعلقة على الجدار ليدرك أنه ما زال لديه متسع من الوقت كي يظهر على خشبة المسرح. ففتح درج مكتبه وأخرج مجموعة من الصور لأبنه منذ أن كان طفلاً رضيعاً إلى آخر صورة له يوم زارهم منذ عدة أشهر لساعات لا تتعدى الثلاثة والثلاثون ساعة زمنيَّة وذلك بمناسبة عيد الأم ليلثم راحتي والدته ويطلب رضاها. وعلى الرغم من دموعه المحتقنة تحت جفونه بدأ يحاكي الصورة قائلاً:
"أعذرني يا ولدي الحبيب عليَّ أن أغادرك الآن فالأطفال ينتظرونني بفارغ الصبر وآمل من الرب بأن يجمعنا قريباً فأنا تواق لعطرك ونبلك. ونظر إلى عقارب الساعة وهب لمغادرة الغرفة على الفور.
في تلك الدقائق بالذات لم يّكُنْ مدير الصالة على علم بوصوله. فتوجه ووقف على خشبة المسرح قبالة جمهور الأطفال وخلفه الستار مغلق وهو حائر كيف يبلغهم عن تأجيل العرض بسبب وصول نبأ استشهاد الشاب نضال أبن الفنان القدير أنطوان صدقي / المهرج/ وهو يدافع عن أرض الوطن. وما إن بدأ بأولى كلمات الاعتذار حتى فتح الستار وبان المهرج على المسرح شامخاً بكبريائه متواضعاً بأخلاقه مرحاً بنفسيته وهو يحيي جمهور الأطفال وينحني لهم احتراماً. فتمتلئ الصالة بابتسامات الأطفال وفرحهم وتصفيقهم المتلاحق لظهوره. ونظراتهم ومسامعهم قد سرحت نحوه لتخطف من حركاته وكلماته البسيطة الواضحة الصادقة معنى الحياة وسعادتها. فما كان من مدير الصالة إلاَّ الانسحاب بكل هدوء وهو في حيرة من عظمة هذا الفنان القدير وجلس خلف المسح منزوياً مع ذاته يمسح دموع حارقة قد انهمرت من مقلتيه في غفلة منه ويتوه عن ذاته ويغرق في بحور ضحكات الأطفال وهم يتابعون بشغف حركات فنانهم المفضل وكلماته المتواصلة المتعانقة برقاب بعضها البعض. ليصحو أخيراً على نداءاته وهو يدعوا الأطفال لينشدوا معه ختام الحفل بكلمات خارج النص المألوف:
" يا أيتها الإنسانية هيا استيقظي
كفانا ظلماً وقهراً وذلاً وعدواناً
ها نحن الأطفال قادمون للحياة
لنزرع بقلبها الورود والريحان
كي ننعم بالحب والفرح والوئام
فلا نريد حروب وتشريد ودمار
نريد السلام لكل الأمم والأوطان "
فتعلوا أصوات الأطفال وهي تنشد معه وتغرد فرحة. ليسمع بعدها تصفيق حاد ومتواصل. فيتوجه فورا ليطمئن عليه ليجده ما زال ينشد مع الأطفال وهو يبكي وملامح التعب والإرهاق بادية عليه. فيعطي أمراً بإنزال الستار في اللحظة الني سقط فيها المهرج على خشبة المسرح مغمياً عليه. لينقل بعدها على الفور للمستشفى الوطني ويوضع بالعناية المشددة والأطفال ما يزالون ينتظرون عروضه القادمة وهم مستمرون في أنشودة " يا أيتها الإنسانية استيقظي"
انتهت
أبى إلاّ أن يقطع المسافات سيراً على الأقدام على الرغم من اعتصار قلبه الحزين وأنفاسه الممزقة. إلاَّ أنه كان مصمماً على أن يجر قدميه المثقلة ويبذل جهداً كي يسرع في خطواته ليصل بالوقت المناسب. وما أن وصل على مقربة من مسرح الأطفال. وجد الأطفال يتوافدون بإقبال برفقة ذويهم وهم فرحين مسرورين. يقف لدقائق معدودات وهو يراقب بسمات الأطفال ووجوههم البريئة الضاحكة النقية الصافية غير المشوهة بَعْدُ من متاعب الحياة ومظالمها. ليتوجه بعدها إلى الباب الخلفي مسرعاً بخطواته نحو غرفته.
يرمق في المرآة فيرى ذاك الوجه المتعب المثقل بالهموم. فيلامس بلطف بعض خصال من شعر المنثور على رأسه دون تنسيق بسبب أنامل الهواء التي عبثت به كما هواها دون رقيب. ليبدأ على الفور في خلع ثيابه ولبس الثياب المناسبة لدوره كمهرج يضحك الأطفال ويلامس بلطف عواطفهم وأحاسيسهم الرقيقة الطيبة. رجع مرة أخرى للمرآة ودفن مشاعره داخل فؤاده النازف منذ الصباح الباكر من هول الصدمة التي أصابته لحظة سماعه ذاك النبأ المفاجئ.
مسح دموعه ومد يده وتناول علبة التلوين / المساحيق / ويبدأ بالرسم على مساحة وجهه ملامح ذاك الرجل البسيط الذي لا يعرف سوى اتجاه واحد في الحياة. والنطق بما يفكر به وما يخطر على باله دون تردد أو حرج أو تجميل. وما أن أنهى ما كان يصبو إليه. نظر في الساعة المعلقة على الجدار ليدرك أنه ما زال لديه متسع من الوقت كي يظهر على خشبة المسرح. ففتح درج مكتبه وأخرج مجموعة من الصور لأبنه منذ أن كان طفلاً رضيعاً إلى آخر صورة له يوم زارهم منذ عدة أشهر لساعات لا تتعدى الثلاثة والثلاثون ساعة زمنيَّة وذلك بمناسبة عيد الأم ليلثم راحتي والدته ويطلب رضاها. وعلى الرغم من دموعه المحتقنة تحت جفونه بدأ يحاكي الصورة قائلاً:
"أعذرني يا ولدي الحبيب عليَّ أن أغادرك الآن فالأطفال ينتظرونني بفارغ الصبر وآمل من الرب بأن يجمعنا قريباً فأنا تواق لعطرك ونبلك. ونظر إلى عقارب الساعة وهب لمغادرة الغرفة على الفور.
في تلك الدقائق بالذات لم يّكُنْ مدير الصالة على علم بوصوله. فتوجه ووقف على خشبة المسرح قبالة جمهور الأطفال وخلفه الستار مغلق وهو حائر كيف يبلغهم عن تأجيل العرض بسبب وصول نبأ استشهاد الشاب نضال أبن الفنان القدير أنطوان صدقي / المهرج/ وهو يدافع عن أرض الوطن. وما إن بدأ بأولى كلمات الاعتذار حتى فتح الستار وبان المهرج على المسرح شامخاً بكبريائه متواضعاً بأخلاقه مرحاً بنفسيته وهو يحيي جمهور الأطفال وينحني لهم احتراماً. فتمتلئ الصالة بابتسامات الأطفال وفرحهم وتصفيقهم المتلاحق لظهوره. ونظراتهم ومسامعهم قد سرحت نحوه لتخطف من حركاته وكلماته البسيطة الواضحة الصادقة معنى الحياة وسعادتها. فما كان من مدير الصالة إلاَّ الانسحاب بكل هدوء وهو في حيرة من عظمة هذا الفنان القدير وجلس خلف المسح منزوياً مع ذاته يمسح دموع حارقة قد انهمرت من مقلتيه في غفلة منه ويتوه عن ذاته ويغرق في بحور ضحكات الأطفال وهم يتابعون بشغف حركات فنانهم المفضل وكلماته المتواصلة المتعانقة برقاب بعضها البعض. ليصحو أخيراً على نداءاته وهو يدعوا الأطفال لينشدوا معه ختام الحفل بكلمات خارج النص المألوف:
" يا أيتها الإنسانية هيا استيقظي
كفانا ظلماً وقهراً وذلاً وعدواناً
ها نحن الأطفال قادمون للحياة
لنزرع بقلبها الورود والريحان
كي ننعم بالحب والفرح والوئام
فلا نريد حروب وتشريد ودمار
نريد السلام لكل الأمم والأوطان "
فتعلوا أصوات الأطفال وهي تنشد معه وتغرد فرحة. ليسمع بعدها تصفيق حاد ومتواصل. فيتوجه فورا ليطمئن عليه ليجده ما زال ينشد مع الأطفال وهو يبكي وملامح التعب والإرهاق بادية عليه. فيعطي أمراً بإنزال الستار في اللحظة الني سقط فيها المهرج على خشبة المسرح مغمياً عليه. لينقل بعدها على الفور للمستشفى الوطني ويوضع بالعناية المشددة والأطفال ما يزالون ينتظرون عروضه القادمة وهم مستمرون في أنشودة " يا أيتها الإنسانية استيقظي"
انتهت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق