الثلاثاء، 30 أكتوبر 2018

شجرة الوعد ... بقلم د.هبه عبد الغني

شجـــــــــــــــــــرة الوعــــــــــــــــــــــــــد
🌺🌺بقلمي ..... د.هبه عبد الغني🌺🌺

    وبينما النجوم الفضية المنثورة في السماء تلملم نفسها في عقد حول عنق الليل الراحل.. علا صوت المؤذن بصلاة الفجر ليشق السماء، فاختبأت طيور الظلام من شمس الحقيقة الآتية بلا محالة .. في ذلك الوقت أنهت "رحيق" لمساتها الأخيرة على فستان الزفاف الأبيض الذي صممته، حيث اشتهرت منذ سنوات بروعة تصاميمها وتفصيلاتها لفساتين الزفاف، ظلت تنظر للفستان وهو معلق من بعيد ومن قريب لترى إن كان ينقصه بعض اللآلئ.. حتى طرأت لها فكرة رجت قلبها فرحًا بينما أدمعت عيناها حزنًا.. ولكنها سريعًا مسحت دموعها وارتدت الفستان، ظلت تدور وتدور أمام المرآة.. اقتربت من المرآة أكثر وهي تتأمل وجهها ثم أسرعت ووضعت العديد من المساحيق والألوان على وجهها لتخفي ما رسمه الزمن بفرشاته على وجهها ورقبتها.. ابتسمت لنفسها وأزاحت حجابها الأسود عن شعرها وظلت تصففه.. حاولت إخفاء خصلاته الفضية بعدة طرق ولكنها كانت كثيفة ومتناثرة.. بكت بحرقة وهي تدير ظهرها للمرآة.. لملمت شعرها بسرعة وارتدت الحجاب ثم أزاحت عن جسدها فستان الزفاف وارتدت ملابسها بحسرة وهي تمسح دموعها التي تناثرت على وجهها ورقبتها، سكتت برهة حينما وقعت عيناها على تلك الرواية الموضوعة في ركن الغرفة المقدس من المنزل حيث تحوطها الزهور الذابلة وبجوارها صندوق خشبي مزخرف بالجواهر به العديد من الرسائل المعطرة برائحة الغربة والاشتياق..

    أسرعت "رحيق" إلى تلك الرواية قبلتها واحتضنتها متسائلة: متى ستأتي يا أميري؟ متى ستفي بوعدك؟ أين فستان زفافي الذي وعدتني به؟ أنسيتني؟! مر ثلاثة عشر عامًا على سفرك ولم تأتِ بعد وانقطعت أخبارك عني منذ سبع سنوات! ماذا أصابك يا حبيب الروح ؟    
ثم تركت الرواية ذات الأوراق البالية بلون الشجر المتساقط في فصل الخريف، وكعادتها كل يوم جمعة تذهب في نزهة مع ذكريات الحبيب الغائب على ضفاف النيل... في نفس مكان اللقاء وعند شجرة الوعد جلست تتعبد في محراب وفائها للحبيب الغائب الذي تركها دون حنين كالظمآن للرحيل.. بينما هي لم تسمح لقلبها يومًا أن ينبض لغيره.. عاشت كالراهبة في محراب حبه.
    أخذت تتلمس تلك الشجرة المتفردة من بين الأشجار فهي الشاهد على الوعد والعهد، تمايل جزعها الخشبي وانحنى، تساقطت أغصانها ولم تعُد توُرق أو يتفتح على رأسها أزهار، ذاب لحاؤها وانمحى من فوقه اسماهما وذلك القلب الذي حفراه معًا فوق جزعها ليبقى ذكرى.
   جلست فوق جزعها المائل برفق وفتحت الرواية -هدية حبيبها الوحيدة لها- وظلت تنظر لصورته الباهتة... ذهبت بقلبها للماضي لتطرق بروحها نافذة غرفة حبيبها وجارها وتراه يجلس مع والدته المريضة وأخته الكبرى عابس الوجه سارح العينين فلقد تكاثرت عليه الديون من أجل إتمام زفاف أخته الوحيدة وما هي إلا أيام وتسافر مع عريسها إلى إحدى قرى الصعيد وتتركه تُثقل كاهله الديون وخدمة والدته المسنة .
     تذهب إليه "رحيق" بذهبها وكل ما ورثته عن والديها وتعطيه إياه، لكنه لم يسدد ديونه بل هرب للخارج بحثًا عن الثراء بعد أن وعدها أنه ما أن يصبح ثريًا سيبنى لها قصرًا ويحضر لها فستان زفاف من الخارج ويقيم لها حفل زفاف كزفاف الملكات والأميرات.

     ظلت تحلم بزفافها وفستانها وتنتظر عودته عامًا بعد عام.. تولت هي رعاية والدته المسنة حتى توفت وانقطعت رسائل الحبيب، ولكن الأمل في قلبها لم ينقطع وظلت تنتظر عودته.
مرت لحظات هي من العمر سنوات حتى أفاقت "رحيق" من شرودها إثر ضربة كرة في قدميها من طفل صغير في عمر السبع سنوات، تركت "رحيق" الرواية بجانب الشجرة وأمسكت الكرة واقتربت مبتسمة من الطفل لتعطيها له، فاقترب والد الطفل ليشكرها وما أن اعتدلت واصطدمت عيناهما حتى أحست بخنجر ينغرس في قلبها المكلوم.. كادت تبكي ولكنها حاولت التماسك حينما أمسك يدها شاكرًا.. تساءلت أين الدفء في لمسته؟! كنت أشعر بحبه ولهفته في لمسة يده؟! لمَ سارت يده باردة وقاسية؟! أين ملمسهما الحاني؟!
    أقبلت زوجته ففتح ذراعه لها ليأخذها في نصف حضن وهو يعرفها على "رحيق" بأنها جارته في بيتهم القديم.. فقط مجرد جاره قديمة، لم تتحمل "رحيق" قسوة الحجارة التي تخرج من فمه لتنغرس في قلبها رحلت سريعًا باكية .
     أما هو فلمح الرواية بجوار الشجرة ففتحها ليجد صورته وآخر رسالة منه إليها.. شرد لحظة ثم ترك الرواية بجانب الشجرة وذهب إلى زوجته وأولاده ليكمل حياته معهم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

صراع بين الناس..بقلم الشاعر/كمال الدين حسين

 صداعُ الفكرِ في أُذني ورأسي أتاني منْ صراعٍ بين ناسٍ فلا عادَ الأنامُ على وصالٍ مع الأصحابِ في زمنِ المآسي فصارَ الكلُّ مشغولاً بنفعٍ لهمْ ...