ألم دفين
حين تنفرد رهام مع نفسها، وتأخذها أحلامها بعيداً إلى أيامها الماضية. بسبب أغنية سمعتها أو ربما كلمات تشبهها، أو ربما ظرف ما مر بحياتها. فتبدأ الدموع تزيّنُ خدها وتتساقط على وسادتها المليئة بآهاتها وأحزانها حين تخطفها من نفسها غيمة عابرة لتعيدها إلى أحداث الماضي. كل هذا لأنَّها أنثى حالمة رقيقة ذات حساسية عالية لكل ما يحيط بها، ولأنَّها تعشق الحب بكلِّ أشكاله ( حب الأسرة والأصدقاء والجيران والدار والأرض والوطن ).. لكنَّها تاهت في زحمة الحياة على الرغم من حرصها الدائم بين الحين والآخر على إعادة ترتيب علاقاتها مع الآخرين وتنظيم أمورها الحياتية، وتقليص أمالها وأمنياتها وترتيبها مجددا حسب الظروف بهدف الحفاظ على بذرة الفرح والسعادة في قلبها. فكانت توفق أحياناً وتفشل أحياناً أخرى. فتُمَنّي نفسها بإيمانها بالحظ الذي لا مفر منه لأنه وليد من عالم الغيب.
لكن الليلة وبعد أن أوت لفراشها. فجأة فاضت فيها ذكريات طفولتها؛ فبانت لها تلك الفتاة الهادئة الخجولة التي عاشت بكنف أسرة مؤمنة مؤلفة من أب طيب مؤمن بار، وأم مكافحة تعمل جاهدة على إيجاد أفضل السُبُلْ لإدارة أمور الأسرة والتغلب على الصعاب التي تعترض أيٍّ من أفرادها. ولكنَّها كانت دائمة الحزن لأنَّها لم تكن تحظى بذاك الاهتمام العاطفي الخفي بين الزوج وزوجته. بسبب برودة طباعه وعدم إدراكه أهمية مداعبة عواطف الأنثى وامتصاص لحظات ثورتها نحو الحب والحياة.
وتذكرت كيف كان يعتصر قلبها بالأسى حين كانت تلحظ شرود والدتها ومظاهر الحزن مرسومة على ملامحها وآهات الحسرة تخرج من صدرها. وذات مرة اقتربت من والدتها لتكسر جدار الصمت الجاثم على صدرها؛ لقناعتها بأن كل ما يحصل مع والدتها هو بسبب الفراغ الذي يجعلها كئيبة وذلك نتيجة عملها فقط كَرَبَّة منزل دون عمل آخر خارجه. دون أن تلحظ بأنَّ والدتها في حركة دائمة يومياً منذ الساعة السادسة صباحاً وحتى ساعات متأخرة من الليل وسألتها:
- ما هو أهم شيء في الحياة يجلب السعادة يا أمي ؟
فنظرت إليها والدتها وعيونها محتقنة بدموع خفية وأجابتها:
- الحب بكل مظاهره وغاياته .. نعم يا ابنتي .. الحب .. ولا شيء غير الحب لأنَّه زاد الحياة والدافع لاستمرارها بهناء وسعادة...
وتسرع بعدها والدتها إلى غرفتها وتغلق الباب عليها وتغفو لساعات طوال على غير عادتها.
وبعد تلك الحادثة تمر السنون كطرفة عين وتتخرج رهام من معهد أعداد المدرسين، وتعمل بجد ونشاط وأمانة وتكسب ثقة كل من يتعامل معها دون أن تعلم بأنَّها سوف تحظى بزوج بنفس طبائع والدها. فكان سبب الألم الدفين الدائم لكل أيامها السابقة والقادمة منها. وأصبحت ترهق نفسها بالعمل داخل المنزل وخارجه ودفنت مشاعرها بالاهتمام المفرط في تربية الأولاد وتأمين مستقبلهم. إلاًّ أن بانت مخالب القدر جلية واضحة على شكل قطعان من الهمج والمرتزقة، وقد بدؤوا ينهشون في جسد وطنها يميناً وشمالاً من دون رحمة بهدف تمزيقه وتدميره لمصلحة عدو خفيٍّ متوحش ..
أنقسم حينها كلُّ أبناء الوطن بكافة مشاربهم وانتماءاتهم بين مؤيد وداعم لهؤلاء من أجل حفنة من الدراهم أو لمكاسب وهمية، وبين من هبَّ في وجههم وأعلن ولائه للوطن والإخلاص لشعبه، ومجموعة أخرى كُشِفَ أمرها وبان عدم انتمائها وهرب شبابها قبل رجالها وذكورها قبل إناثها. وكانت رهام من بين تلك الفئة من القوم.
ها هي اليوم بعد سنوات من الهجرة؛ تشتر مصاعب الغربة إضافة لما في داخلها. فقست كآبتها وأشتدَّ حزنها وخاصة بعد زواج أبنتها واستقرارها في بلد آخر وأبنها الوحيد الذي كان قدوة في الأدب والأخلاق والالتزام؛ ها قد ترك والديه وسكن مع عشيقته تحقيقاً للحرية الشخصية. وبقيت وحيدة مع زوج بارد العواطف غير مبال بشيء سوى بالصدقة التي يحصل عليها من مجلس الملَّة الأوروبي والأكل والنوم الدائمين.
فكرت رهام مليّاً ولم يكن أمامها سبيل للخلاص من الملل والضجر سوى النشاط المستمر على عدة مواقع للتواصل الاجتماعي واصلة الليل بالنهار وهي تتحاور مع تلك وتخالفها وتتفق مع الأخرى وتجامل ذاك وتراسل الآخر وأصبحت أمور البيت وأخبار أولادها من آخر اهتماماتها, وبنت صداقات وهمية مع كثيرين منهم لا بل تبادلت مع البعض منهم عواطف جياشة أيقظت أنوثتها وبدأت تعيش أوهام الصبايا اليافعات حتى أنّها لم تعد تلحظ ما فعلتها بها سنوات العمر الطوال.
في تلك الليلية المليئة بكلمات العشق والغزل وزوجها راقد في سبات عميق هبَّت من مجلسها وملأت حقيبة السفر الجديد من الثياب وكل ما هو ضروري، وفتحت باب الدار وخرجت وأغلقته بهدوء بعد أن كتبت رسالة لزوجها..
" ها نحن نتنفس الحرية ليل نهار ونغب من نبع الديمقراطية ما نشاء. لذا قررت أن أستخدمها في تحقيق أمنياتي لعلني أجد ما صاع منّي في مكان ما، ولكَ كامل الحرية لتفعل ما تشاء" "
انتهت
جوزيف شماس
حين تنفرد رهام مع نفسها، وتأخذها أحلامها بعيداً إلى أيامها الماضية. بسبب أغنية سمعتها أو ربما كلمات تشبهها، أو ربما ظرف ما مر بحياتها. فتبدأ الدموع تزيّنُ خدها وتتساقط على وسادتها المليئة بآهاتها وأحزانها حين تخطفها من نفسها غيمة عابرة لتعيدها إلى أحداث الماضي. كل هذا لأنَّها أنثى حالمة رقيقة ذات حساسية عالية لكل ما يحيط بها، ولأنَّها تعشق الحب بكلِّ أشكاله ( حب الأسرة والأصدقاء والجيران والدار والأرض والوطن ).. لكنَّها تاهت في زحمة الحياة على الرغم من حرصها الدائم بين الحين والآخر على إعادة ترتيب علاقاتها مع الآخرين وتنظيم أمورها الحياتية، وتقليص أمالها وأمنياتها وترتيبها مجددا حسب الظروف بهدف الحفاظ على بذرة الفرح والسعادة في قلبها. فكانت توفق أحياناً وتفشل أحياناً أخرى. فتُمَنّي نفسها بإيمانها بالحظ الذي لا مفر منه لأنه وليد من عالم الغيب.
لكن الليلة وبعد أن أوت لفراشها. فجأة فاضت فيها ذكريات طفولتها؛ فبانت لها تلك الفتاة الهادئة الخجولة التي عاشت بكنف أسرة مؤمنة مؤلفة من أب طيب مؤمن بار، وأم مكافحة تعمل جاهدة على إيجاد أفضل السُبُلْ لإدارة أمور الأسرة والتغلب على الصعاب التي تعترض أيٍّ من أفرادها. ولكنَّها كانت دائمة الحزن لأنَّها لم تكن تحظى بذاك الاهتمام العاطفي الخفي بين الزوج وزوجته. بسبب برودة طباعه وعدم إدراكه أهمية مداعبة عواطف الأنثى وامتصاص لحظات ثورتها نحو الحب والحياة.
وتذكرت كيف كان يعتصر قلبها بالأسى حين كانت تلحظ شرود والدتها ومظاهر الحزن مرسومة على ملامحها وآهات الحسرة تخرج من صدرها. وذات مرة اقتربت من والدتها لتكسر جدار الصمت الجاثم على صدرها؛ لقناعتها بأن كل ما يحصل مع والدتها هو بسبب الفراغ الذي يجعلها كئيبة وذلك نتيجة عملها فقط كَرَبَّة منزل دون عمل آخر خارجه. دون أن تلحظ بأنَّ والدتها في حركة دائمة يومياً منذ الساعة السادسة صباحاً وحتى ساعات متأخرة من الليل وسألتها:
- ما هو أهم شيء في الحياة يجلب السعادة يا أمي ؟
فنظرت إليها والدتها وعيونها محتقنة بدموع خفية وأجابتها:
- الحب بكل مظاهره وغاياته .. نعم يا ابنتي .. الحب .. ولا شيء غير الحب لأنَّه زاد الحياة والدافع لاستمرارها بهناء وسعادة...
وتسرع بعدها والدتها إلى غرفتها وتغلق الباب عليها وتغفو لساعات طوال على غير عادتها.
وبعد تلك الحادثة تمر السنون كطرفة عين وتتخرج رهام من معهد أعداد المدرسين، وتعمل بجد ونشاط وأمانة وتكسب ثقة كل من يتعامل معها دون أن تعلم بأنَّها سوف تحظى بزوج بنفس طبائع والدها. فكان سبب الألم الدفين الدائم لكل أيامها السابقة والقادمة منها. وأصبحت ترهق نفسها بالعمل داخل المنزل وخارجه ودفنت مشاعرها بالاهتمام المفرط في تربية الأولاد وتأمين مستقبلهم. إلاًّ أن بانت مخالب القدر جلية واضحة على شكل قطعان من الهمج والمرتزقة، وقد بدؤوا ينهشون في جسد وطنها يميناً وشمالاً من دون رحمة بهدف تمزيقه وتدميره لمصلحة عدو خفيٍّ متوحش ..
أنقسم حينها كلُّ أبناء الوطن بكافة مشاربهم وانتماءاتهم بين مؤيد وداعم لهؤلاء من أجل حفنة من الدراهم أو لمكاسب وهمية، وبين من هبَّ في وجههم وأعلن ولائه للوطن والإخلاص لشعبه، ومجموعة أخرى كُشِفَ أمرها وبان عدم انتمائها وهرب شبابها قبل رجالها وذكورها قبل إناثها. وكانت رهام من بين تلك الفئة من القوم.
ها هي اليوم بعد سنوات من الهجرة؛ تشتر مصاعب الغربة إضافة لما في داخلها. فقست كآبتها وأشتدَّ حزنها وخاصة بعد زواج أبنتها واستقرارها في بلد آخر وأبنها الوحيد الذي كان قدوة في الأدب والأخلاق والالتزام؛ ها قد ترك والديه وسكن مع عشيقته تحقيقاً للحرية الشخصية. وبقيت وحيدة مع زوج بارد العواطف غير مبال بشيء سوى بالصدقة التي يحصل عليها من مجلس الملَّة الأوروبي والأكل والنوم الدائمين.
فكرت رهام مليّاً ولم يكن أمامها سبيل للخلاص من الملل والضجر سوى النشاط المستمر على عدة مواقع للتواصل الاجتماعي واصلة الليل بالنهار وهي تتحاور مع تلك وتخالفها وتتفق مع الأخرى وتجامل ذاك وتراسل الآخر وأصبحت أمور البيت وأخبار أولادها من آخر اهتماماتها, وبنت صداقات وهمية مع كثيرين منهم لا بل تبادلت مع البعض منهم عواطف جياشة أيقظت أنوثتها وبدأت تعيش أوهام الصبايا اليافعات حتى أنّها لم تعد تلحظ ما فعلتها بها سنوات العمر الطوال.
في تلك الليلية المليئة بكلمات العشق والغزل وزوجها راقد في سبات عميق هبَّت من مجلسها وملأت حقيبة السفر الجديد من الثياب وكل ما هو ضروري، وفتحت باب الدار وخرجت وأغلقته بهدوء بعد أن كتبت رسالة لزوجها..
" ها نحن نتنفس الحرية ليل نهار ونغب من نبع الديمقراطية ما نشاء. لذا قررت أن أستخدمها في تحقيق أمنياتي لعلني أجد ما صاع منّي في مكان ما، ولكَ كامل الحرية لتفعل ما تشاء" "
انتهت
جوزيف شماس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق