المؤاخاة بين المهاجرين والانصار واهم الدروس التي نتجت عنها
ــــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي - العراق- 20-9-2019
سعى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ منذ دخوله المدينة إلى تثبيت دعائم الدولة الجديدة، فكانت من أولى خطواته المباركة، المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، التي ذابت فيها عصبيات الجاهلية، وسقطت بها فوارق النسب واللون والوطن، وكانت من أقوى الدعائم في بناء الأمة،وتأسيس المجتمع المسلم الجديد في المدينة المنورة، حتى يتآلف ويقوى، ويكون صفا واحدا أمام أعدائه. .
لقد وضعت الفترة الأولى من قدوم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة، كلا من المهاجرين والأنصار أمام مسئولية خاصة من الأخوة والتعاون، وكانت هذه المؤاخاة أقوى في حقيقتها من أخوة الرحم، وكان الأنصار على مستوى هذه المسئولية، فواسوا إخوانهم المهاجرين، وآثروهم على أنفسهم بخير الدنيا، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: ( قالت الأنصار للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال: لا، فقالوا: تكفوننا المؤونة ونشرككم في الثمرة، فقالوا سمعنا وأطعنا )( البخاري ) . وقد ترتب على هذه المؤاخاة حقوق بين المتآخين، شملت التعاون المادي والرعاية، والنصيحة والتزاور، والمحبة والإيثار..
أدت الهجرة إلى تنوع سكان المدينة، حيث صار فيها من الأحياء المختلفين غير الأوس والخزرج من العرب، وضم ذلك كله وحدة المسلمين، وكان أعداؤهم المنافقين واليهود، فانقسم الناس إلى ثلاثة أقسام: المؤمنين، والمنافقين، واليهود.
لما اجتمع هذا العدد من المهاجرين في المدينة، كان لا بد من إيجاد حل لهؤلاء الوافدين القادمين الذين كثيرٌ منهم ما عندهم أموال ولا بيوت ولا مأوى، فجاء الحل الشرعي، وهو: المؤاخاة، واعتبر الإسلام المؤمنين كلهم إخوة، فقال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10].
وأوجب عليهم: الموالاة لبعضهم، والتناصر في الحق بينهم، وحصلت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار .
ذهب بعض المؤرخين: إلى أنه قد حصلت مؤاخاة في مكة بين بعض المكيين، وقد أخرج الحاكم وابن عبد البر بسند حسن عن ابن عباس أنه قال: "آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بين الزبير وابن مسعود" [معرفة الصحابة: 3/240، رقم: 1402، والمعجم الكبير للطبراني:12645].
ولكن ذهب ابن القيم وابن كثير: إلى عدم وقوع المؤاخاة بمكة، وإنما كانت بالمدينة، وكذلك هو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- الذي نفى وقوع المؤاخاة بين المهاجرين في مكة، وخصوصاً ما روج من بعض الأخبار في المؤاخاة بين النبي -عليه الصلاة والسلام- وعلي؛ ولأن المؤاخاة إنما كانت لإرفاق بعضهم بعضاً، وتأليف قلوب بعضهم على بعض، فلا معنى لمؤاخاة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأحد، ولا لمؤاخاة مهاجري مع مهاجري.
وابن حجر -رحمه الله- ذهب إلى أن النص إذا جاء، فإنه لا بد من الأخذ به، وأن هناك حكمة أخرى للمؤاخاة، وهي: أن بعض المهاجرين كان أفضل من بعض بالمال والعشيرة والقوة، فآخى بين الأعلى والأدنى من المهاجرين أنفسهم، حتى يرفق الأعلى بالأدنى، ويستعين الأدنى بالأعلى، فآخى بين حمزة وزيد بن حارثة؛ لأن زيداً مولاهم، وإن كان هناك مؤاخاة في مكة، فهي شيء يسير، ولو كان هناك في المدينة مؤاخاة بين بعض المهاجرين، فهي حالات خاصة من مهاجر عنده إمكانات.
من الحقائق الناصعة أن واقعة المؤاخاة -بعد الهجرة إلى المدينة المنورة- لعجيبة وغريبة في التاريخ الإنساني. لأن مشاهدها وأحداثها فاقت كلّ تصوّر ، وفي ظلّها قدّم الصحابة كثيرًا من صور التفاني والتضحية على نحوٍ لم يحدث في تاريخ أمّةٍ من قبل ، فينبغي لنا أن نقف أمام هذه الواقعة لنتأمّل دروسها ، ونستلهم عبرها .
فمن المعلوم أن الهجرة إلى المدينة المنورة واقعة هامة في التّاريخ الإسلامي، لأنّ المسلمين تركوا بلدهم، وبيوتهم، وأموالهم، وخرجوا بأمر من الله، ونجاة بدينهم، وقد كان منهم من هاجروا إلى الحبشة في السابق؛ ليلجؤوا إلى حاكمها العادل من بطش قريش وسادتها. ثم أمر الله تعالى الرّسول ومن معه من المسلمين بالهجرة إلى المدينة المنّورة، بعد ما تحمَّلوا من ظلم كفّار قريش وعذابهم، فخرجوا من مكّة أفراداً، وجماعات. حتى هاجر الرسول-صلى الله عليه- وصاحبه أبو بكر الصديق –رضى الله عنه- الى المدينة المنورة.
وعندما وصل النّبي-عليه السلام- وصاحبه إلى المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار، وقام النبى – عليه السلام- بتشريع نظام المؤاخاة في دار أنس بن مالك رضي الله عنه . فالمهاجرون خرجوا بأنفسهم وبدينهم، وتركوا أموالهم، وبيوتهم، وليس لهم صلة و لاحيلة، فعانوا عددا من المشكلات: نحو الشعور بالغربة ومفارقة الأهل والديار ، وترك معظم الأموال وَالْمُمْتَلَكَات في مكّة، وظهور الأمراض في صفوفهم كالحمّى وغيرها التي أحدثها الانتقال المفاجيء إلى بيئةٍ أخرى . فقام كل أنصاري باقتسام ماله، وأملاكه بينه وبين أخيه من المهاجرين. وأشتهرت هذه الواقعة باسم “واقعة المؤاخاة”. وهذه المؤاخاة أعطت للمتآخييْن الحقّ في التوارث دون أن يكون بينهما صلة من قرابة ، كما في قوله تعالى : { ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } ( النساء :33 ) .ثم نسخ الله تعالى هذا الحكم ، وأرجع نظام الإرث إلى ما كان عليه ، وذلك في قوله تعالى : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } ( الأنفال : 75 ) مع بقاء المساعدة والمعاونة ، وإسداء المشورة والنصيحة ، وغيرها من معاني الأخوة .و لم تُقم تلك المؤاخاة على الاعتبارات القَبَلِيَّة، حيث جمعت بين القوي والضعيف ، والغني والفقير ، والأبيض والأسود ، والحرّ والعبد ، وبذلك استطاعت هذه الأخوّة أن تنتصر على العصبيّة للقبيلة أو الجنس أو الأرض. وفي الحقيقة أنها كانت تجربة فريدة لم تشهد الإنسانية نظيرا لها؛ لم تكن فقط تُدبر أزمة اقتصادية نشأت عن الازدحام السكاني؛ بل كانت تترجم مباديء الإسلام في قلوب وعقول أصحابه إلى وقائع عملية. وتنشيء مفهوما للأخوة تنهل من مَعين التوجيه الرباني؛ لا من كَدِر القبيلة والقرابة .
وإذا تعمقنا النظر إلى السيرة والتاريخ نرى كثيراً من الأنصار عرضوا على النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يقسم الأراضي الزراعيّة بينهم وبين إخوانهم من المهاجرين ، حتى أن سعد بن الربيع -رضى الله عنه- عرض على أخيه عبدالرحمن بن عوف -رضى الله عنه- نصف ماله ليأخذه ، بل خيّره بين إحدى زوجتيه كي يطلّقها لأجله. وقد أورث صنيعهم هذا مشاعر الإعجاب في نفوس المهاجرين . وقدكان ذلك تصديق قول الله عز و جل: (( والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)) (الحشر:9 ) . وفي هذه الواقعة دروس هامة و موعظة حسنة لكل من يتدبر فيها ويتفكر ((فاعتبروا يا اولى الابصار)).
يحدثنا عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ عما وصلت إليه هذه المؤاخاة فيقول:( لما قدمنا إلى المدينة آخى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيني وبين سعد بن الربيع ، فقال لي سعد : إني أكثر الأنصار مالا فأقسم لك نصف مالي، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، فقال عبد الرحمن بن عوف : بارك الله لك في أهلك ومالك، لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة ؟ قال سعد : سوق قينقاع ، قال فغدا إليه عبد الرحمن .. إلي آخر الحديث )( البخاري )، وقد شكر المهاجرون للأنصار فعلهم ومواقفهم الرفيعة في الكرم والإيثار، وقالوا يا رسول الله: ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلا في كثير من الأنصار.
ولم يكن سعد بن الربيع منفردا في ذلك عن غيره من الأنصار، بل كان هذا شأن عامة الصحابة، حتى وصلت المؤاخاة إلى درجة أن يتوارث المتآخيان، ثم نسخ هذا التوارث بقول الله عز وجل :{ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }(الأنفال:75)..
لقد حملت قضية المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في طياتها كثيرا من المعاني الطيبة، التي كان من المهم أن تغرس في نفوس الصحابة، خاصة في تلك المرحلة الهامة من تاريخ الإسلام،لما لها من أثر قوي في بناء الدولة المسلمة، وهذه المعاني جديرة بأن نقف معها، لا لتأملها فحسب، بل لنقيم واقعنا اليوم كأفراد ومجتمعات عليها، ومن هذه المعاني:
العقيدة أساس البناء
ــــــــــــــــ: فقد حصر الإسلام الأخوة والموالاة بين المؤمنين فقط، قال تعالى:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }(الحجرات: من الآية10)، وقطع الولاية بين المؤمنين والكافرين، فقال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }(المائدة:51)..ولذلك كان التآخي بين المهاجرين والأنصار مسبوقا بعقيدة التوحيد وقائما عليها، فالعقيدة هي العمود الفقري للمؤاخاة التي حدثت في المدينة، لأن تلك العقيدة تضع الناس كلهم في مصاف العبودية لله دون الاعتبار لأي فارق، إلا فارق التقوى والعمل الصالح، قال تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } (الحجرات: من الآية13) .
ومن ثم لم تكن هذه المؤاخاة شعاراً لا يظهر له أثر، بل كانت واقعا قائما على الإيمان بالله، قال تعالى:{ وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }(الحشر:9).. تعلم الصحابة ذلك وتربوا عليه، فكان ولاؤهم لله ورسوله والمؤمنين، وامتلأ تاريخهم بالمواقف الرائعة التي تدل على فهمهم وتحقيقهم لمعنى الولاء الذي منحوه لخالقهم ولدينهم وإخوانهم..
الحب في الله
ــــــــــــــ: فالمؤاخاة على الحب في الله من أقوى الدعائم في بناء الأمة الإسلامية، ولذلك حرص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على تعميق هذا المعنى في المجتمع المسلم الجديد، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( إن الله تعالى يقول يوم القيامة : أين المتحابون بجلالي ، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي )( مسلم ) . فبالحب في الله أصبحت المؤاخاة عقدا نافذا لا لفظا فارغا، وعملا يرتبط بالدماء والأموال، لا كلمة تنطق بها الألسنة، ومن ثم كانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة، وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثلة.
النصيحة بين المتآخين في الله : فقد كان للمؤاخاة أثر في التناصح بين المسلمين،فعن أبي جحيفة عن أبيه قال: ( آخى النبي - صلى الله عليه وسلم – بين سلمان وأبي الدرداء ، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذِّلة(قبل نزول الحجاب) فقال لها : ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً، فقال له : كل فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال نم، فلما كان من آخر الليل قال سلمان قم الآن، فصلَّيا، فقال له سلمان : إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - صدق سلمان ) ( البخاري ) .
القضاء على الفوارق الجاهلية
ـــــــــــــــــــــ : كفوارق النسب والقبيلة والجاه وغير ذلك مما كان سائدا في تلك المجتمعات، حيث سادت العصبية وكانت دينا عندهم، فكان من أهداف المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار إذابة هذه الفوارق، لأنها أمراض وآفات تضعف المجتمع، وتحول بينه وبين القوة والتمكين، لأنه من الصعب بل من المستحيل أن تستأنف حياة إسلامية عزيزة قوية إذا لم يحدث التآخي بين أفراد المجتمعات والأمة الإسلامية، ومن ثم كانت المؤاخاة نعمة من نعم الله، ومن أسباب القوة والعزة والثبات أمام الأعداء، قال تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }(آل عمران:103) ..
لقد ساهمت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في تقوية المجتمع المسلم الجديد في المدينة، وبتحقيقها ذابت العصبية وحظوظ النفس، فلا ولاء إلا لله ورسوله والمؤمنين، وأشاعت في المجتمع عواطف ومشاعر الحب، وملأته بأروع الأمثلة من الأخوة والعطاء والتناصح والإيثار، وجعلته جسدا واحدا في السراء والضراء، والآلام والآمال، ومن هنا كانت حكمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جعل أول عمل يقوم به حين مقدمه المدينة، ـ بعد بناء المسجد ـ تأسيسه للمجتمع على المؤاخاة، والتي كانت حلا لكثير من المشاكل، وأهلت المسلمين ليكونوا أقوى أمة على الأرض.. فما أحوجنا اليوم إلى التحقق بهذه المؤاخاة ، للصمود في وجه الأعداء، ومواجهة التحديات التي تواجه أمتنا في هذه الأيام .
إيثار الآصرة الإيمانية على آصرة النسب والقرابة
ـــــــــــــــــــ : وبهذه المؤاخاة ذوَّب النبى -عليه السلام- العصبيات الجاهلية وسدّدها، وأصَّل المودة وجذّرها في قلوب المهاجرين والأنصار على السواء. فآثرواعلى أنفسهم و لو كان بهم خصاصة
إيجاد البيئة اللائقة لبناء الدولة الإسلامية
ــــــــــــــــــــــــ : ولاشك أن آصرة المودة والتآخي شريطة و لازمة لبناء الدولة الاسلامية واستقرارها؛ لأنها تعمل على نشر روح الإسلام الذي هو العصب المحرك لإقامة قواعد مجتمع جديد. فبهذه المؤاخاة أوجد النبى –عليه السلام- بيئة مثالية راعية تليق أن تبتنى عليها الدولة الاسلامية. ثم أقام فيها النبى –عليه السلام- دولة اسلامية بسهولة و أمان. فأصبحت المدينة دولة اسلامية في أقل المدة وايسرها.
أجود الطريق لحل الأزمات السياسية
ـــــــــــــــــــــــــــــ : ولا يخفى على أحد أن المؤاخاة تلعب دورا بالغا لإزاء الاضطرابات السياسية و التقلبات الحكومية كما شهدتها المدينة المنورة ؛ خصوصا بعد تشكل طبقة المنافقين؛ وانكشاف مؤامرات اليهود. بل إن فاعليتها السياسية امتدت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث مكَّنت من اقلاع الخلاف الناشيء في سقيفة بني ساعدة. فمحا الاضطراب السياسي و اندفع، ثم قامت الخلافة على يد أبي بكر الصديق _رضى الله عنه_ بأمن وسلام.
خيرتدبير للوضع الاقتصادي الطارئ
ـــــــــــــــــــــــ: في الواقع أن الازدحام السكاني ينشأ أزمة اقتصادية في البلاد؛ خاصة اذا لجؤوا من بلاد آخر. فكذلك نشأت بعد الهجرة أزمة إقتصادية في المدينة المنورة. فحرص النبي-صلى الله عليه وسلم- من خلال المؤاخاة على إيجاد تشريع ملائم ييسر للمهاجرين معاشهم كي لا يظلوا عالة على إخوانهم. ولم يأل الأنصار جهدا لبذل ما في وسعهم والتخفيف عن المهاجرين مما يُلازم النفس عادة من ألم الوحشة ومفارقة الديار. حتى انهم قالوا للنبي – صلى الله عليه وسلم – يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن موأساة في قليل ولا أحسن بذلا في كثير لقد كفونا المئونة وأشركونا في الهناء حتى لقد حسبنا أن يذهبوا بالأجر كله. قال: لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله عز وجل لهم. (رواه احمد في مسنده، رقم الحديث:12602)
وهذا دليل على أن المجتمع الذي تكون العلاقة بين أفراده محكومة بمثل هذه المعايير الدينية؛ يرقى إلى درجة من التماسك والوحدة وتحقيق نهضة سوية. ولذا طالب الشيخ الغزالي من الحكام بفرض نظام المؤاخاة على الناس: وقال: ” لا يمنع الحاكم من فرضه على الناس نظاماً يؤخذون بحقوقه أخذا،ً فإذا لم يُؤدوها طوعا أدوها كرها؛ وذلك كما يُجبرون على العلم والجندية وأداء الضرائب (محمد الغزالي .فقه السيرة. ص 117 )
ــــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي - العراق- 20-9-2019
سعى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ منذ دخوله المدينة إلى تثبيت دعائم الدولة الجديدة، فكانت من أولى خطواته المباركة، المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، التي ذابت فيها عصبيات الجاهلية، وسقطت بها فوارق النسب واللون والوطن، وكانت من أقوى الدعائم في بناء الأمة،وتأسيس المجتمع المسلم الجديد في المدينة المنورة، حتى يتآلف ويقوى، ويكون صفا واحدا أمام أعدائه. .
لقد وضعت الفترة الأولى من قدوم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة، كلا من المهاجرين والأنصار أمام مسئولية خاصة من الأخوة والتعاون، وكانت هذه المؤاخاة أقوى في حقيقتها من أخوة الرحم، وكان الأنصار على مستوى هذه المسئولية، فواسوا إخوانهم المهاجرين، وآثروهم على أنفسهم بخير الدنيا، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: ( قالت الأنصار للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال: لا، فقالوا: تكفوننا المؤونة ونشرككم في الثمرة، فقالوا سمعنا وأطعنا )( البخاري ) . وقد ترتب على هذه المؤاخاة حقوق بين المتآخين، شملت التعاون المادي والرعاية، والنصيحة والتزاور، والمحبة والإيثار..
أدت الهجرة إلى تنوع سكان المدينة، حيث صار فيها من الأحياء المختلفين غير الأوس والخزرج من العرب، وضم ذلك كله وحدة المسلمين، وكان أعداؤهم المنافقين واليهود، فانقسم الناس إلى ثلاثة أقسام: المؤمنين، والمنافقين، واليهود.
لما اجتمع هذا العدد من المهاجرين في المدينة، كان لا بد من إيجاد حل لهؤلاء الوافدين القادمين الذين كثيرٌ منهم ما عندهم أموال ولا بيوت ولا مأوى، فجاء الحل الشرعي، وهو: المؤاخاة، واعتبر الإسلام المؤمنين كلهم إخوة، فقال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10].
وأوجب عليهم: الموالاة لبعضهم، والتناصر في الحق بينهم، وحصلت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار .
ذهب بعض المؤرخين: إلى أنه قد حصلت مؤاخاة في مكة بين بعض المكيين، وقد أخرج الحاكم وابن عبد البر بسند حسن عن ابن عباس أنه قال: "آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بين الزبير وابن مسعود" [معرفة الصحابة: 3/240، رقم: 1402، والمعجم الكبير للطبراني:12645].
ولكن ذهب ابن القيم وابن كثير: إلى عدم وقوع المؤاخاة بمكة، وإنما كانت بالمدينة، وكذلك هو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- الذي نفى وقوع المؤاخاة بين المهاجرين في مكة، وخصوصاً ما روج من بعض الأخبار في المؤاخاة بين النبي -عليه الصلاة والسلام- وعلي؛ ولأن المؤاخاة إنما كانت لإرفاق بعضهم بعضاً، وتأليف قلوب بعضهم على بعض، فلا معنى لمؤاخاة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأحد، ولا لمؤاخاة مهاجري مع مهاجري.
وابن حجر -رحمه الله- ذهب إلى أن النص إذا جاء، فإنه لا بد من الأخذ به، وأن هناك حكمة أخرى للمؤاخاة، وهي: أن بعض المهاجرين كان أفضل من بعض بالمال والعشيرة والقوة، فآخى بين الأعلى والأدنى من المهاجرين أنفسهم، حتى يرفق الأعلى بالأدنى، ويستعين الأدنى بالأعلى، فآخى بين حمزة وزيد بن حارثة؛ لأن زيداً مولاهم، وإن كان هناك مؤاخاة في مكة، فهي شيء يسير، ولو كان هناك في المدينة مؤاخاة بين بعض المهاجرين، فهي حالات خاصة من مهاجر عنده إمكانات.
من الحقائق الناصعة أن واقعة المؤاخاة -بعد الهجرة إلى المدينة المنورة- لعجيبة وغريبة في التاريخ الإنساني. لأن مشاهدها وأحداثها فاقت كلّ تصوّر ، وفي ظلّها قدّم الصحابة كثيرًا من صور التفاني والتضحية على نحوٍ لم يحدث في تاريخ أمّةٍ من قبل ، فينبغي لنا أن نقف أمام هذه الواقعة لنتأمّل دروسها ، ونستلهم عبرها .
فمن المعلوم أن الهجرة إلى المدينة المنورة واقعة هامة في التّاريخ الإسلامي، لأنّ المسلمين تركوا بلدهم، وبيوتهم، وأموالهم، وخرجوا بأمر من الله، ونجاة بدينهم، وقد كان منهم من هاجروا إلى الحبشة في السابق؛ ليلجؤوا إلى حاكمها العادل من بطش قريش وسادتها. ثم أمر الله تعالى الرّسول ومن معه من المسلمين بالهجرة إلى المدينة المنّورة، بعد ما تحمَّلوا من ظلم كفّار قريش وعذابهم، فخرجوا من مكّة أفراداً، وجماعات. حتى هاجر الرسول-صلى الله عليه- وصاحبه أبو بكر الصديق –رضى الله عنه- الى المدينة المنورة.
وعندما وصل النّبي-عليه السلام- وصاحبه إلى المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار، وقام النبى – عليه السلام- بتشريع نظام المؤاخاة في دار أنس بن مالك رضي الله عنه . فالمهاجرون خرجوا بأنفسهم وبدينهم، وتركوا أموالهم، وبيوتهم، وليس لهم صلة و لاحيلة، فعانوا عددا من المشكلات: نحو الشعور بالغربة ومفارقة الأهل والديار ، وترك معظم الأموال وَالْمُمْتَلَكَات في مكّة، وظهور الأمراض في صفوفهم كالحمّى وغيرها التي أحدثها الانتقال المفاجيء إلى بيئةٍ أخرى . فقام كل أنصاري باقتسام ماله، وأملاكه بينه وبين أخيه من المهاجرين. وأشتهرت هذه الواقعة باسم “واقعة المؤاخاة”. وهذه المؤاخاة أعطت للمتآخييْن الحقّ في التوارث دون أن يكون بينهما صلة من قرابة ، كما في قوله تعالى : { ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } ( النساء :33 ) .ثم نسخ الله تعالى هذا الحكم ، وأرجع نظام الإرث إلى ما كان عليه ، وذلك في قوله تعالى : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } ( الأنفال : 75 ) مع بقاء المساعدة والمعاونة ، وإسداء المشورة والنصيحة ، وغيرها من معاني الأخوة .و لم تُقم تلك المؤاخاة على الاعتبارات القَبَلِيَّة، حيث جمعت بين القوي والضعيف ، والغني والفقير ، والأبيض والأسود ، والحرّ والعبد ، وبذلك استطاعت هذه الأخوّة أن تنتصر على العصبيّة للقبيلة أو الجنس أو الأرض. وفي الحقيقة أنها كانت تجربة فريدة لم تشهد الإنسانية نظيرا لها؛ لم تكن فقط تُدبر أزمة اقتصادية نشأت عن الازدحام السكاني؛ بل كانت تترجم مباديء الإسلام في قلوب وعقول أصحابه إلى وقائع عملية. وتنشيء مفهوما للأخوة تنهل من مَعين التوجيه الرباني؛ لا من كَدِر القبيلة والقرابة .
وإذا تعمقنا النظر إلى السيرة والتاريخ نرى كثيراً من الأنصار عرضوا على النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يقسم الأراضي الزراعيّة بينهم وبين إخوانهم من المهاجرين ، حتى أن سعد بن الربيع -رضى الله عنه- عرض على أخيه عبدالرحمن بن عوف -رضى الله عنه- نصف ماله ليأخذه ، بل خيّره بين إحدى زوجتيه كي يطلّقها لأجله. وقد أورث صنيعهم هذا مشاعر الإعجاب في نفوس المهاجرين . وقدكان ذلك تصديق قول الله عز و جل: (( والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)) (الحشر:9 ) . وفي هذه الواقعة دروس هامة و موعظة حسنة لكل من يتدبر فيها ويتفكر ((فاعتبروا يا اولى الابصار)).
يحدثنا عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ عما وصلت إليه هذه المؤاخاة فيقول:( لما قدمنا إلى المدينة آخى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيني وبين سعد بن الربيع ، فقال لي سعد : إني أكثر الأنصار مالا فأقسم لك نصف مالي، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، فقال عبد الرحمن بن عوف : بارك الله لك في أهلك ومالك، لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة ؟ قال سعد : سوق قينقاع ، قال فغدا إليه عبد الرحمن .. إلي آخر الحديث )( البخاري )، وقد شكر المهاجرون للأنصار فعلهم ومواقفهم الرفيعة في الكرم والإيثار، وقالوا يا رسول الله: ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلا في كثير من الأنصار.
ولم يكن سعد بن الربيع منفردا في ذلك عن غيره من الأنصار، بل كان هذا شأن عامة الصحابة، حتى وصلت المؤاخاة إلى درجة أن يتوارث المتآخيان، ثم نسخ هذا التوارث بقول الله عز وجل :{ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }(الأنفال:75)..
لقد حملت قضية المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في طياتها كثيرا من المعاني الطيبة، التي كان من المهم أن تغرس في نفوس الصحابة، خاصة في تلك المرحلة الهامة من تاريخ الإسلام،لما لها من أثر قوي في بناء الدولة المسلمة، وهذه المعاني جديرة بأن نقف معها، لا لتأملها فحسب، بل لنقيم واقعنا اليوم كأفراد ومجتمعات عليها، ومن هذه المعاني:
العقيدة أساس البناء
ــــــــــــــــ: فقد حصر الإسلام الأخوة والموالاة بين المؤمنين فقط، قال تعالى:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }(الحجرات: من الآية10)، وقطع الولاية بين المؤمنين والكافرين، فقال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }(المائدة:51)..ولذلك كان التآخي بين المهاجرين والأنصار مسبوقا بعقيدة التوحيد وقائما عليها، فالعقيدة هي العمود الفقري للمؤاخاة التي حدثت في المدينة، لأن تلك العقيدة تضع الناس كلهم في مصاف العبودية لله دون الاعتبار لأي فارق، إلا فارق التقوى والعمل الصالح، قال تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } (الحجرات: من الآية13) .
ومن ثم لم تكن هذه المؤاخاة شعاراً لا يظهر له أثر، بل كانت واقعا قائما على الإيمان بالله، قال تعالى:{ وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }(الحشر:9).. تعلم الصحابة ذلك وتربوا عليه، فكان ولاؤهم لله ورسوله والمؤمنين، وامتلأ تاريخهم بالمواقف الرائعة التي تدل على فهمهم وتحقيقهم لمعنى الولاء الذي منحوه لخالقهم ولدينهم وإخوانهم..
الحب في الله
ــــــــــــــ: فالمؤاخاة على الحب في الله من أقوى الدعائم في بناء الأمة الإسلامية، ولذلك حرص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على تعميق هذا المعنى في المجتمع المسلم الجديد، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( إن الله تعالى يقول يوم القيامة : أين المتحابون بجلالي ، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي )( مسلم ) . فبالحب في الله أصبحت المؤاخاة عقدا نافذا لا لفظا فارغا، وعملا يرتبط بالدماء والأموال، لا كلمة تنطق بها الألسنة، ومن ثم كانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة، وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثلة.
النصيحة بين المتآخين في الله : فقد كان للمؤاخاة أثر في التناصح بين المسلمين،فعن أبي جحيفة عن أبيه قال: ( آخى النبي - صلى الله عليه وسلم – بين سلمان وأبي الدرداء ، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذِّلة(قبل نزول الحجاب) فقال لها : ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً، فقال له : كل فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال نم، فلما كان من آخر الليل قال سلمان قم الآن، فصلَّيا، فقال له سلمان : إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - صدق سلمان ) ( البخاري ) .
القضاء على الفوارق الجاهلية
ـــــــــــــــــــــ : كفوارق النسب والقبيلة والجاه وغير ذلك مما كان سائدا في تلك المجتمعات، حيث سادت العصبية وكانت دينا عندهم، فكان من أهداف المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار إذابة هذه الفوارق، لأنها أمراض وآفات تضعف المجتمع، وتحول بينه وبين القوة والتمكين، لأنه من الصعب بل من المستحيل أن تستأنف حياة إسلامية عزيزة قوية إذا لم يحدث التآخي بين أفراد المجتمعات والأمة الإسلامية، ومن ثم كانت المؤاخاة نعمة من نعم الله، ومن أسباب القوة والعزة والثبات أمام الأعداء، قال تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }(آل عمران:103) ..
لقد ساهمت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في تقوية المجتمع المسلم الجديد في المدينة، وبتحقيقها ذابت العصبية وحظوظ النفس، فلا ولاء إلا لله ورسوله والمؤمنين، وأشاعت في المجتمع عواطف ومشاعر الحب، وملأته بأروع الأمثلة من الأخوة والعطاء والتناصح والإيثار، وجعلته جسدا واحدا في السراء والضراء، والآلام والآمال، ومن هنا كانت حكمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جعل أول عمل يقوم به حين مقدمه المدينة، ـ بعد بناء المسجد ـ تأسيسه للمجتمع على المؤاخاة، والتي كانت حلا لكثير من المشاكل، وأهلت المسلمين ليكونوا أقوى أمة على الأرض.. فما أحوجنا اليوم إلى التحقق بهذه المؤاخاة ، للصمود في وجه الأعداء، ومواجهة التحديات التي تواجه أمتنا في هذه الأيام .
إيثار الآصرة الإيمانية على آصرة النسب والقرابة
ـــــــــــــــــــ : وبهذه المؤاخاة ذوَّب النبى -عليه السلام- العصبيات الجاهلية وسدّدها، وأصَّل المودة وجذّرها في قلوب المهاجرين والأنصار على السواء. فآثرواعلى أنفسهم و لو كان بهم خصاصة
إيجاد البيئة اللائقة لبناء الدولة الإسلامية
ــــــــــــــــــــــــ : ولاشك أن آصرة المودة والتآخي شريطة و لازمة لبناء الدولة الاسلامية واستقرارها؛ لأنها تعمل على نشر روح الإسلام الذي هو العصب المحرك لإقامة قواعد مجتمع جديد. فبهذه المؤاخاة أوجد النبى –عليه السلام- بيئة مثالية راعية تليق أن تبتنى عليها الدولة الاسلامية. ثم أقام فيها النبى –عليه السلام- دولة اسلامية بسهولة و أمان. فأصبحت المدينة دولة اسلامية في أقل المدة وايسرها.
أجود الطريق لحل الأزمات السياسية
ـــــــــــــــــــــــــــــ : ولا يخفى على أحد أن المؤاخاة تلعب دورا بالغا لإزاء الاضطرابات السياسية و التقلبات الحكومية كما شهدتها المدينة المنورة ؛ خصوصا بعد تشكل طبقة المنافقين؛ وانكشاف مؤامرات اليهود. بل إن فاعليتها السياسية امتدت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث مكَّنت من اقلاع الخلاف الناشيء في سقيفة بني ساعدة. فمحا الاضطراب السياسي و اندفع، ثم قامت الخلافة على يد أبي بكر الصديق _رضى الله عنه_ بأمن وسلام.
خيرتدبير للوضع الاقتصادي الطارئ
ـــــــــــــــــــــــ: في الواقع أن الازدحام السكاني ينشأ أزمة اقتصادية في البلاد؛ خاصة اذا لجؤوا من بلاد آخر. فكذلك نشأت بعد الهجرة أزمة إقتصادية في المدينة المنورة. فحرص النبي-صلى الله عليه وسلم- من خلال المؤاخاة على إيجاد تشريع ملائم ييسر للمهاجرين معاشهم كي لا يظلوا عالة على إخوانهم. ولم يأل الأنصار جهدا لبذل ما في وسعهم والتخفيف عن المهاجرين مما يُلازم النفس عادة من ألم الوحشة ومفارقة الديار. حتى انهم قالوا للنبي – صلى الله عليه وسلم – يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن موأساة في قليل ولا أحسن بذلا في كثير لقد كفونا المئونة وأشركونا في الهناء حتى لقد حسبنا أن يذهبوا بالأجر كله. قال: لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله عز وجل لهم. (رواه احمد في مسنده، رقم الحديث:12602)
وهذا دليل على أن المجتمع الذي تكون العلاقة بين أفراده محكومة بمثل هذه المعايير الدينية؛ يرقى إلى درجة من التماسك والوحدة وتحقيق نهضة سوية. ولذا طالب الشيخ الغزالي من الحكام بفرض نظام المؤاخاة على الناس: وقال: ” لا يمنع الحاكم من فرضه على الناس نظاماً يؤخذون بحقوقه أخذا،ً فإذا لم يُؤدوها طوعا أدوها كرها؛ وذلك كما يُجبرون على العلم والجندية وأداء الضرائب (محمد الغزالي .فقه السيرة. ص 117 )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق