الخميس، 26 سبتمبر 2019

سليمان دغش يكتب ....

فـــي المقهــــــــــى الاسبانــــــــــي / سليمان دَغَش

الرّوجُ الأحمَرُ يُدمي شَفَةَ الفنجانِ في يَدِها
وَحدها في المَقهى الإسبانيِّ السّاحِرِ في طَنجَةَ
على بُعدِ صهيلِ حصانٍ عَرَبيٍّ أو أدنى
من بابِ الشّمسِ إلى أندَلسِ الأمسِ
قريباً جداً من جَبلٍ يُدعى طارقْ
بيننا  في المقهى طاوِلتانِ لا أكثَرَ ومسافةُ جُرحٍ في التاريخِ
وحُلُمٌ أوشَكَ أن يُنسى، ظلّ يراوِدُ ذاكرتي لكنّهُ يبعُدُ أكثر أكثَرْ
تَرتَشِفُ القَهوَةَ مِنْ شَفَةِ الفنجانِ وتُبطِئُ بينَ الرَّشفةِ والأخرى
 لِتُطيلَ المُتعةَ في طقسِ القهوةِ، تُغمضُ جَفنيها السَّوداوينِ،
يسودُ الصمتُ المقهى في حضرتها فيكادُ الصمتُ يُصَلّي لأميرةِ غرناطةَ 
إذْ وَصَلتْ للتّو فطارَ المَقهى سِربَ فراشاتٍ يتهادى في محرابِ أنوثَتها
وكأني ألمَحُ خاتَمِيَ العَرَبِيَّ يَلمَعُ في إصبَعِ يَدِها اليُسرى
أتأمَّلُ مهوى قرطَيها وأقيسُ طَريقَ النَّرجِسِ  ما بينَ الأذنِ وبينَ الكتِف المستَأنِس
بوشاحِ الليلِ الأسود وهوَ يُخَبِّئُ في كَتِفَيْها ضوءَ الشَّمس
كأنَّ القرطينِ على سَفرٍ أبَدِيٍّ فوقَ طريقِ رخامٍ ظلَّ حَراماً
لو لامَسَهُ القرطُ تأوَّهَ وجَعاً، أجْفَلَهُ فوقَ الكَتِفِ اليمنى شهدُ الجَنَّةِ
وفوق اليُسرى نارُ جَهَنَّمَ أيّهما أشهى يسألُ
 والدربُ طويلٌ جداً نحوَ الجنَّةِ لكنَّهُ أطولُ أطولُ نحوَ النار
أتأملُ مهوى القِرطينِ على تلِّ الذُّعرِ
أطيلُ النظرَةَ أهذي شَغَفاً علّي أكشِفُ سرَّ وسِحرَ علاماتِ الاستفهام
تلمَعُ ولاعَتُها الذَّهَبِيَّةُ في يدها اليُمنى،
تقتَرِبُ النارُ منَ السيجارَةِ بينَ أصابِعِ يدِها اليُسرى
 تأخُذُ نَفَساً فيفوحُ التَّبغُ الفاخرُ في أرجاءِ المقهى
وتطيلُ الوقتَ كثيرا ما بينَ المَجَّةِ والأخرى
فَلَدَيها كُلُّ الوَقتِ لكَيْ تستَمتِعَ في طَقسِ القَهوَةِ حتى آخِرِهِ أو آخِرها
فالقَهوَةُ حالةُ عِشقٍ تَتَأوَّهُ في شَفَةِ الفِنجانْ
أرْقُبُها
تَرقُبُني
أنظُرُ في عَينيها السّوداوينِ كليل الصّحراء
تَنظُرُ في عَينَيَّ على استِحياء
ثُمَّ يُسافِرُ كلٌّ مِنا في تيهِ القهوةِ والفِنجان
تأخُذُها موسيقى الفلامنكو بعيداً جداً
إلى أندلُسٍ ما زالتْ تَسكُنُ في ذاكِرَةِ الروحِ
وتطفو مثلَ سرابٍ يرحَلُ أبعدَ أبعَدَ
من زَبَدٍ يتلاشى في خاتمةِ البحرِ ويفنى
لا شيءَ سيبقى غير البحرِ، يمتلئُ المقهى دِفئاً بالموسيقى
ويَمُرُّ الوَقتُ سريعاً فيما يتعدّى عقاربَ ساعَتِنا
لا يَلتَزِمُ الوَقتُ بغيرِ الوقتِ،
تنظُرُ كالعَرّافَةِ تقرَأُ ما تُخفي سُبُلُ القهوَةِ في الفنجان
وأنا أقرأُ عينيها السوداوينِ وأسألُ: ما سِرُّ الأسوَدِ يا سيّدتي في العينينِ
وفي الجَفنينِ وهذا الشعر المُتَمرِّدِ ليلاً فوقَ جبينِ الشّمس
أقرأُ أقرأ أنظُرُ ثانيةً في فنجاني بحثاً عنها عنّي
أرفَعُ عينيَّ إليها لأراها
أو لأراني فيها
وأجوبُ زوايا المقهى بحثاً عنها
لا أحَدَ هناكَ
لا أحَدَ هُنـــــاك
لا أحَدَ هُناكَ سِواي
في المقهى الاسبانـــــــــــــــي

سليمان دغش
(من ديواني الأخير " في المرآةِ أُشبِهُني" الصادر عن الدار "الأهلية للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت")

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

صراع بين الناس..بقلم الشاعر/كمال الدين حسين

 صداعُ الفكرِ في أُذني ورأسي أتاني منْ صراعٍ بين ناسٍ فلا عادَ الأنامُ على وصالٍ مع الأصحابِ في زمنِ المآسي فصارَ الكلُّ مشغولاً بنفعٍ لهمْ ...