ب
اقة أحلام
في منزله المنفرد على شاطئ البحر كان يتحسس أمواج الحنين لآفاق مجده الغابر، وهي قادمة من بعيد طافية على أمواج البحر الهادر وعلى ضوء القمر، وبقايا أشعة نور هاربة من مدفأة حطب تلفظ أنفاسها الأخيرة.
كان يتلمس بأصابعه البائسة الأشياء المنثورة حوله، المتبقية له من أيامه الماضية، ويراقب السماء مصغياً لنجومها ليسمع أصداء أحلامه المتلاشية في مساحات الكون وكأنها غيوم منثورة على صفحة السماء.
وبين الحين والآخر ينظر للبحر، فيجد أمجاده أصدافاً تتقاذفها أمواج البحر بعيدة عن رماله، لترحل مع حيتان البحر هاربة من سمك القرش.
فاحتضن مابقي من أحلامه وأمجاده على صفحات ذاكرته ورحل معها بعيداً كعادته.
ساعات وهو يبحث عن السمكة الذهبية التي سمع عنها حكايات كثيرة من أبناء البحر المعمرين، وعيناه المتلصصتان تمسحان سطح البحر باحثتين عن مبتغاه، ناسياً غدر الموج القادم، ليجد نفسه يسبح بكل طاقته متكئاً على خبرته وبقايا من قاربه المحطم، يصارع صفحات الموج ونهاياته التي لاترحم، ليصل إلى شاطئ الأمان، فيرى وجهه وقد تكسرت ملامحه على قطع صغيرة من مرآة محطمة مرمية على الرمال بجانب قارورات من الخمر الفارغة، وعناء التعب مرسوم على محياه، فيغمض عينيه ويطير بعيداً على أجنحة النوم لساعات طوال.
قبل بزوغ الفجر بقليل، أحسّ بأصوات الموج المتكسّر، ولكنها كانت محملة بزفرات كأنه يعرفها، ففتح عينيه ورفع رأسه ما استطاع، وابتسم ابتسامة محملة بلذة كامنة في ذاته، ولمع في داخله أمل كان يراوده دائماً وهو ينظر إليهما .. يتعانقان ويتبادلان الحب بحرية تامة.
طارت أنظاره بعيداً محلقة فوق الغيوم الراحلة ليترقّب قدوم الفجر، وليراقب المسافات المتباعدة بين النجوم، فبانت له كأنها خلجان رملية ساحرة وعشاق مجانين يمارسون غرام العشق عليها، وهم ذائبون في الفضاء الكوني الخالد.
تذكر صباه وكيف كان يصعد الهضبة المطلة على بلدته القديمة يوم كان في الرابعة عشر من عمره، متسلقاً جدران الدير الصامد على قمتها، ومختبئاً عن أنظار قاطنيه، متلذذاً كان وهو يسرق النظر لأحد رهبان الدير وهو يمارس الحب مع إحداهن في أروقة المعبد المغطاة بالنباتات المعرّشة ليدوم جنونهما لمدة طويلة قبل أن يتعب سيد الموقف ويركن جانباً.
وتذكر جيداً كيف كان يسمّر ناظريه عليها ويمعن في ثنايا جسدها الناعم، وهي تعيد لياقتها وتلبس ثوب عفتها، وتزين رأسها بوشاح الطهارة، وتغادر المكان وعيناها تبرقان أملاً بقدوم يوم التوبة والخلاص.
وتذكر آخر مشهد له في بلدته وأولاد البلدة يطرقون الحجارة بأيديهم ونساء البلدة يقذفن على الموكب المكشوف بالبندورة على رؤوس أربعة خونة يرأسهم رئيس الدير وشيخ في ربيع العمر ورئيس مجلس البلدية وعضو فاعل في حزب علماني، ومنذ ذاك اليوم هاجر بلدته واستقرت قدماه على أرض صلبة بانتمائها وخيراتها وحبيبات رملها الذهبية.
حين همّ بإغلاق باب ذاكرته أحسّ بشعاع هارب من بين أنامل الفجر طارقاً بؤبؤ عينه فاستدار يتفقد جيرانه مجدداً، فإذ ببريق ذهبي لامع يرقص بجانبهما على حبيبات الرمل المتجانس، حينها تحركت فرشاة الدهشة متمايلة لتمسح ملامح وجهه، فبدأ يتساءل: أحقاً كما قيل إن السمكة الذهبية حقيقة؟ أم ماذا ؟! ولماذا هي مرمية على رمال الشاطئ؟.
جمع قواه ورفع جذعه العلوي مستنداً على كفيه؛ ليتأكد مما يراه قبل حلول نور الصباح بكامل بهائه وأناقته وطيب عطره.
وما إن نظر محدقاً حتى صعق كامل جسده بتيار وطني صادر من أصالة جذوره، فأخفض رأسه دون تردد ودفن وجهه في الرمل الناعم الأملس حتى توحدا معاً، وفتح نافذة ذاكرته ليكلم ذاته قائلاً: إذن هما ضابطان إسرائيليان، وما ألمحه خلفهما هو قارب حربي، وأنا في مكان غير مرغوب وجودي فيه.
وفجأة انبثقت من بين ضلوعه أناشيد الطفولة وأشواق الحنين لوطنه وبلدته القديمة الجبلية المتجذرة في داخله، وهبّت مجدداً رياح أمجاده وجبروته في صراع أمواج البحار فقرر أن يأسرهما.
طار عالياً محلّقاً كالنسر حالماً بلحظة تسليمهما لشرفاء بلدته، ونساء البلدة يفرشن له الأرض وروداً معطرة، ليسير شامخاً مبتسماً ضاحكاً، ضاحكاً بصوت عال حتى أحسّ فجأة بصرير درفتي الباب الخشبي المعتّق يصفقان له، ليستيقظ من أحلامه قبل قدوم وقت الظهيرة محمولاً على بساط من رياح ساخنة.
نهض مسرعاً ليلمح على جبين مرآة معلّقة أمامه عينين خاويتين كالسراب وعاصفة حزينة قد لفت روحه، وظلال يأس قد كفنت جسده، وسنوات عمره الباقية قد بسطت ظله على خلفية من ضياء الفجر ورحلت بعيداً، وكلمات ممزوجة بجرأته المعهودة هربت من بين شفاهه المتعبة قائلة: ها أنا، وقد سرت شوطاً بعيداً عن درب مصيري، وبذرت كل أيامي على صفحات أمواج البحار.
جلس أخيراً أمام باب منزله المنفرد عل شاطئ البحر وراح يدمدم: ولدت وعشت وسأموت خارج مدارات أحلامي.
انتهت
اقة أحلام
في منزله المنفرد على شاطئ البحر كان يتحسس أمواج الحنين لآفاق مجده الغابر، وهي قادمة من بعيد طافية على أمواج البحر الهادر وعلى ضوء القمر، وبقايا أشعة نور هاربة من مدفأة حطب تلفظ أنفاسها الأخيرة.
كان يتلمس بأصابعه البائسة الأشياء المنثورة حوله، المتبقية له من أيامه الماضية، ويراقب السماء مصغياً لنجومها ليسمع أصداء أحلامه المتلاشية في مساحات الكون وكأنها غيوم منثورة على صفحة السماء.
وبين الحين والآخر ينظر للبحر، فيجد أمجاده أصدافاً تتقاذفها أمواج البحر بعيدة عن رماله، لترحل مع حيتان البحر هاربة من سمك القرش.
فاحتضن مابقي من أحلامه وأمجاده على صفحات ذاكرته ورحل معها بعيداً كعادته.
ساعات وهو يبحث عن السمكة الذهبية التي سمع عنها حكايات كثيرة من أبناء البحر المعمرين، وعيناه المتلصصتان تمسحان سطح البحر باحثتين عن مبتغاه، ناسياً غدر الموج القادم، ليجد نفسه يسبح بكل طاقته متكئاً على خبرته وبقايا من قاربه المحطم، يصارع صفحات الموج ونهاياته التي لاترحم، ليصل إلى شاطئ الأمان، فيرى وجهه وقد تكسرت ملامحه على قطع صغيرة من مرآة محطمة مرمية على الرمال بجانب قارورات من الخمر الفارغة، وعناء التعب مرسوم على محياه، فيغمض عينيه ويطير بعيداً على أجنحة النوم لساعات طوال.
قبل بزوغ الفجر بقليل، أحسّ بأصوات الموج المتكسّر، ولكنها كانت محملة بزفرات كأنه يعرفها، ففتح عينيه ورفع رأسه ما استطاع، وابتسم ابتسامة محملة بلذة كامنة في ذاته، ولمع في داخله أمل كان يراوده دائماً وهو ينظر إليهما .. يتعانقان ويتبادلان الحب بحرية تامة.
طارت أنظاره بعيداً محلقة فوق الغيوم الراحلة ليترقّب قدوم الفجر، وليراقب المسافات المتباعدة بين النجوم، فبانت له كأنها خلجان رملية ساحرة وعشاق مجانين يمارسون غرام العشق عليها، وهم ذائبون في الفضاء الكوني الخالد.
تذكر صباه وكيف كان يصعد الهضبة المطلة على بلدته القديمة يوم كان في الرابعة عشر من عمره، متسلقاً جدران الدير الصامد على قمتها، ومختبئاً عن أنظار قاطنيه، متلذذاً كان وهو يسرق النظر لأحد رهبان الدير وهو يمارس الحب مع إحداهن في أروقة المعبد المغطاة بالنباتات المعرّشة ليدوم جنونهما لمدة طويلة قبل أن يتعب سيد الموقف ويركن جانباً.
وتذكر جيداً كيف كان يسمّر ناظريه عليها ويمعن في ثنايا جسدها الناعم، وهي تعيد لياقتها وتلبس ثوب عفتها، وتزين رأسها بوشاح الطهارة، وتغادر المكان وعيناها تبرقان أملاً بقدوم يوم التوبة والخلاص.
وتذكر آخر مشهد له في بلدته وأولاد البلدة يطرقون الحجارة بأيديهم ونساء البلدة يقذفن على الموكب المكشوف بالبندورة على رؤوس أربعة خونة يرأسهم رئيس الدير وشيخ في ربيع العمر ورئيس مجلس البلدية وعضو فاعل في حزب علماني، ومنذ ذاك اليوم هاجر بلدته واستقرت قدماه على أرض صلبة بانتمائها وخيراتها وحبيبات رملها الذهبية.
حين همّ بإغلاق باب ذاكرته أحسّ بشعاع هارب من بين أنامل الفجر طارقاً بؤبؤ عينه فاستدار يتفقد جيرانه مجدداً، فإذ ببريق ذهبي لامع يرقص بجانبهما على حبيبات الرمل المتجانس، حينها تحركت فرشاة الدهشة متمايلة لتمسح ملامح وجهه، فبدأ يتساءل: أحقاً كما قيل إن السمكة الذهبية حقيقة؟ أم ماذا ؟! ولماذا هي مرمية على رمال الشاطئ؟.
جمع قواه ورفع جذعه العلوي مستنداً على كفيه؛ ليتأكد مما يراه قبل حلول نور الصباح بكامل بهائه وأناقته وطيب عطره.
وما إن نظر محدقاً حتى صعق كامل جسده بتيار وطني صادر من أصالة جذوره، فأخفض رأسه دون تردد ودفن وجهه في الرمل الناعم الأملس حتى توحدا معاً، وفتح نافذة ذاكرته ليكلم ذاته قائلاً: إذن هما ضابطان إسرائيليان، وما ألمحه خلفهما هو قارب حربي، وأنا في مكان غير مرغوب وجودي فيه.
وفجأة انبثقت من بين ضلوعه أناشيد الطفولة وأشواق الحنين لوطنه وبلدته القديمة الجبلية المتجذرة في داخله، وهبّت مجدداً رياح أمجاده وجبروته في صراع أمواج البحار فقرر أن يأسرهما.
طار عالياً محلّقاً كالنسر حالماً بلحظة تسليمهما لشرفاء بلدته، ونساء البلدة يفرشن له الأرض وروداً معطرة، ليسير شامخاً مبتسماً ضاحكاً، ضاحكاً بصوت عال حتى أحسّ فجأة بصرير درفتي الباب الخشبي المعتّق يصفقان له، ليستيقظ من أحلامه قبل قدوم وقت الظهيرة محمولاً على بساط من رياح ساخنة.
نهض مسرعاً ليلمح على جبين مرآة معلّقة أمامه عينين خاويتين كالسراب وعاصفة حزينة قد لفت روحه، وظلال يأس قد كفنت جسده، وسنوات عمره الباقية قد بسطت ظله على خلفية من ضياء الفجر ورحلت بعيداً، وكلمات ممزوجة بجرأته المعهودة هربت من بين شفاهه المتعبة قائلة: ها أنا، وقد سرت شوطاً بعيداً عن درب مصيري، وبذرت كل أيامي على صفحات أمواج البحار.
جلس أخيراً أمام باب منزله المنفرد عل شاطئ البحر وراح يدمدم: ولدت وعشت وسأموت خارج مدارات أحلامي.
انتهت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق