"أيمرضُ حلمٌ كما يمرضُ الحالمون "
بقلم/ الأسير الفلسطيني كميل أبو حنيش (سجن ريمون)
قد تكون حياة الأسر نعمة في بعض الأحيان إذا كانت تحجبك عن خيبات ومرارات الواقع خارج أسوار السجن، ففي هذه العزلة الإجبارية والجميلة في بعض وجوهها فإنها تحصنك وتحفظك من الضياع والتشظي، وتعيش معها أحلامك التي تؤسسك من الداخل، أحلامٌ لا تزال بذات توهجها تكبر معك وتنضج في أعماقك وتحرص على تشذيبها كي تظل خضراء مزهرة، وحتى لا تصاب بالجفاف فتذوي، لكنك تصاب بالارتباك وأنت تلامس صدمة الواقع حين تتسلل إلى عالم الأسر المغلق بعد الصور والحكايات الموجعة التي يلفح برد صقيعها شتلات زهور أحلامك اليانعة، وما أكثرها تلك المشاهد التي تطالعك أينما وليت وجهك لتوقظ فيك هواجس كامنة لطالما اجتهدت في دفنها في مراقد النسيان، تلتقي بصديقٍ قديمٍ لم تتوقع أن ترج قدميه عالم الأسر بالكاد تتعرف عليه بعد أن تغيرت ملامحه، يعيدك أكثر من عشرين عاماً للوراء، كان شاباً حيوياً وممتلئاً بالبهجة والحياة، شابٌ طموحٌ وحالمٌ ينظمُ الشعر ويسابق الزمن، وها هو أمامك أطلال إنسانٍ تحسهُ مهزوم من الداخل، يروي في اليوم التالي عن خيباته وإخفاقاته في الحياة، وعن الصدفة التي أتت به إلى السجن وكأنه يبعد عنه شبهةً أو عاراً. لم يكن السجنُ سبباً في تعاسته لقد أتعبته الحياة، أوجعته أحلامه التي انكفأ عن متابعتها، تسأله: أين ذلك الشاب الحالم والمتدفق في الحديث؟ أين أحلامك التي لطالما صدعت رؤوسنا بأنك ماضٍ في تحقيقها؟ أين شهاداتك العليا ومشروع السياحة في أرجاء المعمورة، وتذوق نساء بلدانها وقاراتها ؟ إجاباته كان يملأها فواصل الصمت مع ابتسامةٍ موجعةٍ تنزرع فوق ثغره، فتدركُ أنهُ حالمٌ تداركه الحلم، تخلى عن أحلامه بعد أن هزمته معارك الحياة الصغيرة، فغاص في بحر تفاصيلها، فتدير ظهركَ لألا تنتقل إليك َعدوى الحالم المريض، ثمة فتاة كنت تعرفها منذ أيام الجامعة تصغي لصوتها على الهاتف، صوتاً كان في الماضي يختصر الحواس الخمس، فما باله اليوم تائهاً وشائخاً وموجعاً ؟ تسألها عن أخبارها، فتجيبكَ بصوتٍ لا يكادُ يسمع " متفرغةٌ للعائلة والبيت" تحاول أن تبث في برودتها دفئاً لعلها تستعيد حيويتها وجمال حضورها الطاغي، فتسألها: أين تلك الفتاة الحالمة والمغامرة؟ أين الفتاة القارئة والمثقفة؟ أين تلك الفتاة التي كانت تحلم بأن تصبح قائدةً سياسيةً؟ تجيبكَ بضحكةً مقهورةً: " ياه... ألا زلت تذكر؟" تغلق الهاتف على بقايا صوتها الشاحب، وتهتف في نفسكَ حالمةٌ أصابها المرض يبقيها طريحة فراش إحباطاتها، تحاولُ أن تتحاشى الهاتف حتى لا تصاب بالغثيان عندما تصغي لصوتٍ أهدته الحياة خيباتها، ولكنك لا تقاوم ثمة صديق قديم كان ثرياً بأحلامه متشدقاً بقدراته الفذة على مواجهة استعصاءات الحياة، متباهياً بملاك الحظ السعيد الذي يلازمه على الدوام، أكمل تعليمه العالي وتزوج بفتاة أحلامه وأقام أسرة ويعمل براتب ممتاز، واسمه مرموقٌ في المجتمع، وتصغي لصوته وبعد دقائق من ارتداء صوته لقناع الفرح سرعان ما ينتزعه ويبدأ بالنزيف، انفصل عن زوجته التي كان يعشق طلتها، ولم يعدُ يفكرُ سوى بالهجرة عن البلاد، تصرخُ به: ما الذي يجري لك؟ يجيبك بعد تنهيدة عميقة: " أنا متعب يا صديقي، ليتني عندك في الأسر، نحن في سجنٍ كبيرٍ، وأنتم في سجنٍ صغيرٍ"، تغلق الهاتف وتعقد العزمَ على ألا تهاتفه ثانية، كي لا تشهد مزيداً من تشظي الحالمين، تهربُ نحو شاشة التلفاز تطالعك وجوه شاحبة متعبة، والمشاهد المتكررة للحروب والدماء والأشلاء والاحباطات، ثم تنقلك الشاشة في هروبها للأمام إلى البرامج الترفيهية التافهة، تتساءل: أين رسالتها وشعاراتها في النهضة وتربية الأجيال ورعاية الأحلام الكبرى؟ أين المفكرون والساسة والقادة ؟ تجدهم منهمكون في تفاصيل التفاصيل، الكلُ ينزف، تقاطع التلفاز لعدة أيام هارباً من عار الدجل والأكاذيب الكبرى، تواصل الهروب لتحمي أحلامك المتوثبة، ها هو الكتاب خير صديق في هذا الزمان، وها هو هذا الكاتب المرموق الذي طالما استهوتك كتاباته وأفكاره الحالمة، يخدرك مع كل كتابٍ جديدٍ يصدر عنه، وهو ينحدر من الأحلام الكونية إلى مربع الأحلام القومية ثم ينتقل إلى الأحلام الوطنية ويواصل هبوطه إلى الشئون الحزبية، ومن ثم ينحدر أخيراً إلى الشأن الطائفي، ولا تستغربً غداً إذا صدر عنه كتاب مذكراته الشخصية التافهة، التي يتطرق من خلالها لرحلته الفكرية الفاشلة المتسربلة بإعلاء شأن الذات النرجسية.
تلوذ إلى عزلتكَ وتتساءل: لماذا نتخلى عن أحلامنا؟ أم أن أحلامنا هي التي تفارقنا بعد أن أصبحنا غير جديرين بها؟ أهو العمرُ وأوجاعه التي تتعبنا؟ في مرحلة الشباب نكون في حالةٍ أكثر إرادةً وقدرةً وصفاءً على رسم أحلامنا ومتابعتها، ومع الوقت تنهكنا هزائمنا الصغيرة، فنولي مدبرين، ثم تتساءل مرة أخرى: أين تكمن المشكلة؟ في الحلمِ ذاته أم في الحالمين؟ ولماذا تصل بنا الحياةُ إلى هذه الحدود الفاصلة التي تحول بيننا وبين ملامسة الحلم؟ تحاول الإجابةَ عن تلك التساؤلات، يضنيك البحث وتتعبك الحيرة في الإجابات، وتقول في ذاتك " إن الحلم هو سؤال الحياة، وأن الإجابة عليه تقتضي البحث في معناها العميق، تحاول البحث في الفارق بين الأوهام والأحلام، وإن كان ثمةَ شعرةً فاصلةً بينهما، إلا أن الأوهام تظلَ ذاتيةً بامتياز، وقريبةٌ من دائرة الابتذال، والأوهامُ هي أحلامُ معطوبةٌ جاثية على هامش الحياة، لا أحد يلتفتُ إليها سوى المعطوبين الهائمين في فقاعات ذواتهم، والمؤسسين بالخردة البالية، أما الأحلام فتلك التي تضج بالحيوية والجمال، تلك التي تملؤنا شغفاً وحباً لمواصلة الرحلة بالحياة، هي الشاهدةُ على نبلِ رحلتنا الإنسانية، تلك التي تلازمنا دائماً.
أن نحلمُ يعني أن نمارسَ إنسانيتنا وحقنا في الحياة، تحاولُ مرةً أخرى: الحلم هو إحساسنا العميق بالوجود، هو لهفتنا ولذتنا السرية، ونشوتنا الداخلية، ونداؤنا الباطني، ونحن نذهب بشغفٍ وراء أحلامنا التي تمنح المعنى لحياتنا، هي سلاحنا في الرد على صلف الحياة وأوجاعها، هي رفضنا لمأساة الواقع، وتمردنا على كلِ مظاهرِ اليأس والخمول.
أما مأساة الإنسان فإنه لا يستكفي كل ما حقق حلمه، كلما تحققت رغبة أو حلم فإننا ننتشي ولكن سرعان ما تتلاشى النشوة ويصيبنا ضجر الاكتشاف، ونصاب بمرض عدم الاكتفاء، ثم تولد رغبات وأحلام أخرى، وهكذا تستمر عذاباتنا في السعي وراء أحلامنا التي لا تنتهِ أبداً، وهذا هو سر حياتنا في رحلة البحث عن المعنى في الحياة، ويبقى الحلمُ أقوى وأكبر سمواً من الواقع، إنه موضوع الحياة ومبرر استمرارها، هو سؤالُ سعادتنا المنقوصة، هو انتظارنا الجميلُ على محطات الزمن، ولكن من هم أولئك الذين يجسدون الحلم ؟ إنهم الحالمون الكبار المتوهجون بحمل رسالة الحياة، الذين يموتون وهم يدركون سلفاً بأن أحلامهم ستحيى بعدهم، أولئك العباقرة الذين يستمتعون بأوجاعهم في الطريقِ إلى الحلم، ويحتفون بأحلامهم الشاهقة، ويرتقون شهداء في سبيل إنجازها دون أن تتيح لهم الحياة فرصة ملامستها وقطف ثمارها.
أن نتوقف عن الحلم يعني أن نعتزل الحياة، أن نتخلى عنها يعني إفلاسنا وهزيمتنا أمام المعارك الصغيرة، أن نهربَ منها يعني أننا لم نعد جديرين بالحياة، يمرض الحالم عندما يتلاشى إحساسه بلذة الحلم، أحياناً تتأخر أحلامنا، تأتي في غير موعدها أو تتحقق خارج ذواتنا، وحين ننجز حلماً تبدأ نشوتنا في التضاؤل، ومع مرور الزمن لا يتبقى من الحلمِ سوى أطلاله الساخرة من شغفنا بالماضي، ولهذا نبدأ من جديد في شق الطريق نحو حلمٍ آخرٍ، وعندما تهزمنا الحياة ونلوذ تحت قوقعة الخيبات، فإننا نبقى مع أشباح أحلامنا التي تظل تلاحقنا، تتضخم في أعماق دواخلنا لتقتل فينا روح الحياة، هكذا يحدث لنا أفراداً وجماعات، فهل يمرض الحالمون؟ أجل، يمرض الحالمون، يصيبهم التعب فيتساقطون في منتصف الطريق، فيلجئون إلى حلمٍ آخرٍ أقل شأناً ونبلاً وإشراقاً، وسيسحرون من أحلامهم الكبيرة في الماضي، سيقولون أنها كانت أحلام يقظة، ولا يعترفون بهزائمهم المريرة في ميدان الحياة.
وهل يمرض الحلم؟ كلا، لا يمرض الحلم، الحلمُ يبقى حلماً، يظل منتصباً شامخاً جميلاً متلألأً أمام صاحبه المريض، الحلمُ لن يصيبه المرض، ولا يضيع في ضباب اليأس والخيبات، يمرضُ الحالمون يتخلون عن أحلامهم، ويبقى الحلمُ يتيماً في انتظار أن يأتيه فارسٌ أكثرَ شغفاً وحرارةً وتوهجاً لكي ينجزه.
وما هو الأجل؟ الحلم أم دروبنا الطويلة والشائكة في الوصول إليه؟ ربما كانت دروبنا المهلكة هي الأجمل من الحلم ذاته، وما هو أجمل الأحلام؟ بالطبع، هي التي لم تتحقق بعد، هي تلك التي لا نزال نتشبث بشهوة الحياة في سبيل إنجازها، ولكن عندما نموت متخلين عن أحلامنا فإننا في هذه الحالة نموت مرتين، مرة حين ينتصر الحلم، ونحن لا نزال على قيد الحياة، ومرة أخرى حين تلازمنا أشباح أحلامنا ونحن ذاهبون إلى الموت، أما إذا متنا مؤسسين بأحلامنا التي لم تتحقق عندها يكون لنا شرف الحلم النبيل والمحاولة الشريفة، وتوهجنا الذي جعلنا جديرين بالحياة.
أن نواصل رحلة الحلم يعني أننا أوفياء لمعنى الحياة، ذلك المعنى هو الترياق الذي ينقذنا من المرض، لا يمرضُ الحلمُ وإنما يمرضُ الحالمون.
الاسير الفلسطيني كميل ابو حنيش
بقلم/ الأسير الفلسطيني كميل أبو حنيش (سجن ريمون)
قد تكون حياة الأسر نعمة في بعض الأحيان إذا كانت تحجبك عن خيبات ومرارات الواقع خارج أسوار السجن، ففي هذه العزلة الإجبارية والجميلة في بعض وجوهها فإنها تحصنك وتحفظك من الضياع والتشظي، وتعيش معها أحلامك التي تؤسسك من الداخل، أحلامٌ لا تزال بذات توهجها تكبر معك وتنضج في أعماقك وتحرص على تشذيبها كي تظل خضراء مزهرة، وحتى لا تصاب بالجفاف فتذوي، لكنك تصاب بالارتباك وأنت تلامس صدمة الواقع حين تتسلل إلى عالم الأسر المغلق بعد الصور والحكايات الموجعة التي يلفح برد صقيعها شتلات زهور أحلامك اليانعة، وما أكثرها تلك المشاهد التي تطالعك أينما وليت وجهك لتوقظ فيك هواجس كامنة لطالما اجتهدت في دفنها في مراقد النسيان، تلتقي بصديقٍ قديمٍ لم تتوقع أن ترج قدميه عالم الأسر بالكاد تتعرف عليه بعد أن تغيرت ملامحه، يعيدك أكثر من عشرين عاماً للوراء، كان شاباً حيوياً وممتلئاً بالبهجة والحياة، شابٌ طموحٌ وحالمٌ ينظمُ الشعر ويسابق الزمن، وها هو أمامك أطلال إنسانٍ تحسهُ مهزوم من الداخل، يروي في اليوم التالي عن خيباته وإخفاقاته في الحياة، وعن الصدفة التي أتت به إلى السجن وكأنه يبعد عنه شبهةً أو عاراً. لم يكن السجنُ سبباً في تعاسته لقد أتعبته الحياة، أوجعته أحلامه التي انكفأ عن متابعتها، تسأله: أين ذلك الشاب الحالم والمتدفق في الحديث؟ أين أحلامك التي لطالما صدعت رؤوسنا بأنك ماضٍ في تحقيقها؟ أين شهاداتك العليا ومشروع السياحة في أرجاء المعمورة، وتذوق نساء بلدانها وقاراتها ؟ إجاباته كان يملأها فواصل الصمت مع ابتسامةٍ موجعةٍ تنزرع فوق ثغره، فتدركُ أنهُ حالمٌ تداركه الحلم، تخلى عن أحلامه بعد أن هزمته معارك الحياة الصغيرة، فغاص في بحر تفاصيلها، فتدير ظهركَ لألا تنتقل إليك َعدوى الحالم المريض، ثمة فتاة كنت تعرفها منذ أيام الجامعة تصغي لصوتها على الهاتف، صوتاً كان في الماضي يختصر الحواس الخمس، فما باله اليوم تائهاً وشائخاً وموجعاً ؟ تسألها عن أخبارها، فتجيبكَ بصوتٍ لا يكادُ يسمع " متفرغةٌ للعائلة والبيت" تحاول أن تبث في برودتها دفئاً لعلها تستعيد حيويتها وجمال حضورها الطاغي، فتسألها: أين تلك الفتاة الحالمة والمغامرة؟ أين الفتاة القارئة والمثقفة؟ أين تلك الفتاة التي كانت تحلم بأن تصبح قائدةً سياسيةً؟ تجيبكَ بضحكةً مقهورةً: " ياه... ألا زلت تذكر؟" تغلق الهاتف على بقايا صوتها الشاحب، وتهتف في نفسكَ حالمةٌ أصابها المرض يبقيها طريحة فراش إحباطاتها، تحاولُ أن تتحاشى الهاتف حتى لا تصاب بالغثيان عندما تصغي لصوتٍ أهدته الحياة خيباتها، ولكنك لا تقاوم ثمة صديق قديم كان ثرياً بأحلامه متشدقاً بقدراته الفذة على مواجهة استعصاءات الحياة، متباهياً بملاك الحظ السعيد الذي يلازمه على الدوام، أكمل تعليمه العالي وتزوج بفتاة أحلامه وأقام أسرة ويعمل براتب ممتاز، واسمه مرموقٌ في المجتمع، وتصغي لصوته وبعد دقائق من ارتداء صوته لقناع الفرح سرعان ما ينتزعه ويبدأ بالنزيف، انفصل عن زوجته التي كان يعشق طلتها، ولم يعدُ يفكرُ سوى بالهجرة عن البلاد، تصرخُ به: ما الذي يجري لك؟ يجيبك بعد تنهيدة عميقة: " أنا متعب يا صديقي، ليتني عندك في الأسر، نحن في سجنٍ كبيرٍ، وأنتم في سجنٍ صغيرٍ"، تغلق الهاتف وتعقد العزمَ على ألا تهاتفه ثانية، كي لا تشهد مزيداً من تشظي الحالمين، تهربُ نحو شاشة التلفاز تطالعك وجوه شاحبة متعبة، والمشاهد المتكررة للحروب والدماء والأشلاء والاحباطات، ثم تنقلك الشاشة في هروبها للأمام إلى البرامج الترفيهية التافهة، تتساءل: أين رسالتها وشعاراتها في النهضة وتربية الأجيال ورعاية الأحلام الكبرى؟ أين المفكرون والساسة والقادة ؟ تجدهم منهمكون في تفاصيل التفاصيل، الكلُ ينزف، تقاطع التلفاز لعدة أيام هارباً من عار الدجل والأكاذيب الكبرى، تواصل الهروب لتحمي أحلامك المتوثبة، ها هو الكتاب خير صديق في هذا الزمان، وها هو هذا الكاتب المرموق الذي طالما استهوتك كتاباته وأفكاره الحالمة، يخدرك مع كل كتابٍ جديدٍ يصدر عنه، وهو ينحدر من الأحلام الكونية إلى مربع الأحلام القومية ثم ينتقل إلى الأحلام الوطنية ويواصل هبوطه إلى الشئون الحزبية، ومن ثم ينحدر أخيراً إلى الشأن الطائفي، ولا تستغربً غداً إذا صدر عنه كتاب مذكراته الشخصية التافهة، التي يتطرق من خلالها لرحلته الفكرية الفاشلة المتسربلة بإعلاء شأن الذات النرجسية.
تلوذ إلى عزلتكَ وتتساءل: لماذا نتخلى عن أحلامنا؟ أم أن أحلامنا هي التي تفارقنا بعد أن أصبحنا غير جديرين بها؟ أهو العمرُ وأوجاعه التي تتعبنا؟ في مرحلة الشباب نكون في حالةٍ أكثر إرادةً وقدرةً وصفاءً على رسم أحلامنا ومتابعتها، ومع الوقت تنهكنا هزائمنا الصغيرة، فنولي مدبرين، ثم تتساءل مرة أخرى: أين تكمن المشكلة؟ في الحلمِ ذاته أم في الحالمين؟ ولماذا تصل بنا الحياةُ إلى هذه الحدود الفاصلة التي تحول بيننا وبين ملامسة الحلم؟ تحاول الإجابةَ عن تلك التساؤلات، يضنيك البحث وتتعبك الحيرة في الإجابات، وتقول في ذاتك " إن الحلم هو سؤال الحياة، وأن الإجابة عليه تقتضي البحث في معناها العميق، تحاول البحث في الفارق بين الأوهام والأحلام، وإن كان ثمةَ شعرةً فاصلةً بينهما، إلا أن الأوهام تظلَ ذاتيةً بامتياز، وقريبةٌ من دائرة الابتذال، والأوهامُ هي أحلامُ معطوبةٌ جاثية على هامش الحياة، لا أحد يلتفتُ إليها سوى المعطوبين الهائمين في فقاعات ذواتهم، والمؤسسين بالخردة البالية، أما الأحلام فتلك التي تضج بالحيوية والجمال، تلك التي تملؤنا شغفاً وحباً لمواصلة الرحلة بالحياة، هي الشاهدةُ على نبلِ رحلتنا الإنسانية، تلك التي تلازمنا دائماً.
أن نحلمُ يعني أن نمارسَ إنسانيتنا وحقنا في الحياة، تحاولُ مرةً أخرى: الحلم هو إحساسنا العميق بالوجود، هو لهفتنا ولذتنا السرية، ونشوتنا الداخلية، ونداؤنا الباطني، ونحن نذهب بشغفٍ وراء أحلامنا التي تمنح المعنى لحياتنا، هي سلاحنا في الرد على صلف الحياة وأوجاعها، هي رفضنا لمأساة الواقع، وتمردنا على كلِ مظاهرِ اليأس والخمول.
أما مأساة الإنسان فإنه لا يستكفي كل ما حقق حلمه، كلما تحققت رغبة أو حلم فإننا ننتشي ولكن سرعان ما تتلاشى النشوة ويصيبنا ضجر الاكتشاف، ونصاب بمرض عدم الاكتفاء، ثم تولد رغبات وأحلام أخرى، وهكذا تستمر عذاباتنا في السعي وراء أحلامنا التي لا تنتهِ أبداً، وهذا هو سر حياتنا في رحلة البحث عن المعنى في الحياة، ويبقى الحلمُ أقوى وأكبر سمواً من الواقع، إنه موضوع الحياة ومبرر استمرارها، هو سؤالُ سعادتنا المنقوصة، هو انتظارنا الجميلُ على محطات الزمن، ولكن من هم أولئك الذين يجسدون الحلم ؟ إنهم الحالمون الكبار المتوهجون بحمل رسالة الحياة، الذين يموتون وهم يدركون سلفاً بأن أحلامهم ستحيى بعدهم، أولئك العباقرة الذين يستمتعون بأوجاعهم في الطريقِ إلى الحلم، ويحتفون بأحلامهم الشاهقة، ويرتقون شهداء في سبيل إنجازها دون أن تتيح لهم الحياة فرصة ملامستها وقطف ثمارها.
أن نتوقف عن الحلم يعني أن نعتزل الحياة، أن نتخلى عنها يعني إفلاسنا وهزيمتنا أمام المعارك الصغيرة، أن نهربَ منها يعني أننا لم نعد جديرين بالحياة، يمرض الحالم عندما يتلاشى إحساسه بلذة الحلم، أحياناً تتأخر أحلامنا، تأتي في غير موعدها أو تتحقق خارج ذواتنا، وحين ننجز حلماً تبدأ نشوتنا في التضاؤل، ومع مرور الزمن لا يتبقى من الحلمِ سوى أطلاله الساخرة من شغفنا بالماضي، ولهذا نبدأ من جديد في شق الطريق نحو حلمٍ آخرٍ، وعندما تهزمنا الحياة ونلوذ تحت قوقعة الخيبات، فإننا نبقى مع أشباح أحلامنا التي تظل تلاحقنا، تتضخم في أعماق دواخلنا لتقتل فينا روح الحياة، هكذا يحدث لنا أفراداً وجماعات، فهل يمرض الحالمون؟ أجل، يمرض الحالمون، يصيبهم التعب فيتساقطون في منتصف الطريق، فيلجئون إلى حلمٍ آخرٍ أقل شأناً ونبلاً وإشراقاً، وسيسحرون من أحلامهم الكبيرة في الماضي، سيقولون أنها كانت أحلام يقظة، ولا يعترفون بهزائمهم المريرة في ميدان الحياة.
وهل يمرض الحلم؟ كلا، لا يمرض الحلم، الحلمُ يبقى حلماً، يظل منتصباً شامخاً جميلاً متلألأً أمام صاحبه المريض، الحلمُ لن يصيبه المرض، ولا يضيع في ضباب اليأس والخيبات، يمرضُ الحالمون يتخلون عن أحلامهم، ويبقى الحلمُ يتيماً في انتظار أن يأتيه فارسٌ أكثرَ شغفاً وحرارةً وتوهجاً لكي ينجزه.
وما هو الأجل؟ الحلم أم دروبنا الطويلة والشائكة في الوصول إليه؟ ربما كانت دروبنا المهلكة هي الأجمل من الحلم ذاته، وما هو أجمل الأحلام؟ بالطبع، هي التي لم تتحقق بعد، هي تلك التي لا نزال نتشبث بشهوة الحياة في سبيل إنجازها، ولكن عندما نموت متخلين عن أحلامنا فإننا في هذه الحالة نموت مرتين، مرة حين ينتصر الحلم، ونحن لا نزال على قيد الحياة، ومرة أخرى حين تلازمنا أشباح أحلامنا ونحن ذاهبون إلى الموت، أما إذا متنا مؤسسين بأحلامنا التي لم تتحقق عندها يكون لنا شرف الحلم النبيل والمحاولة الشريفة، وتوهجنا الذي جعلنا جديرين بالحياة.
أن نواصل رحلة الحلم يعني أننا أوفياء لمعنى الحياة، ذلك المعنى هو الترياق الذي ينقذنا من المرض، لا يمرضُ الحلمُ وإنما يمرضُ الحالمون.
الاسير الفلسطيني كميل ابو حنيش
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق