"صرت أباً "
مقال بقلم/ الأسير الفلسطيني #كميل_ابو_حنيش
كنت في السابعة والعشرين من عمري عندما ولجت قدماي عتبة السجن المؤبد، وبوسعي أن أزعم أن إحساسي بالسجن لم يتغير حيث لا زمن إحساس فلقد توقف عمري عند السابع والعشرين رغم وجود ستة عشر عاماً على وجودي في الأسر وبهذا يكون عمري الحقيقي اليوم هو ثلاثة وأربعين عاماً؛ فالعمر يقاس بالشعور لا بعدد السنوات كما يقال، وهذه الحالة كادت تنطبق على جميع الأسرى الذين يمضون سنواتاً طويلةً داخل الأسر ويشعرون بأن أعمارهم قد توقفت عند اللحظة التي دخلوا فيها السجن، وبهذا العمر الذي دخلت به السجن لم تكن العائلة والأطفال تشّكل هماً لي ولكثيرين مثلي ممن اختاروا طريق النضال،
لذا دخلت السجن وكنت متحرراً من أي أعباء عائلية وهو ما يبعث على الارتياح قليلاً قياساً بالأسرى الذين تركوا خلفهم زوجات وأطفال وطفقوا يتجرعون ألوان العذاب والحرمان والشوق والأوجاع والحسرات وهم بعيدين عن عائلاتهم، غير أن هذه القضية في رحلة الأسر لا تقف عند هذه الحدود إذ تصبح سيفاً ذو حدين، فمن كان لديه زوجة وأطفال يتمنى كما لو أنه كان أعزباً مثلنا ومتحرراً من أية أعباء، ومن ناحية ثانية فإن الأسير الأعزب مع توالي السنوات يتمنى لو أنه تزوج وأنجب أطفالاً، ففي السجن ثمة نزيف متواصل لسنوات العمر وشعور عميق بالخسارة والحرمان، ومهما حاولت إشغال نفسك إلا أن ثمة أشياء تبدأ بالتزاحم في رأسك، وثمة هواجس ومشاعر وحاجات ورغبات تستيقظ من مراقدها بصورة لا إرادية مهما حاولت قمعها أو التحايل عليها إلا أنها تظل تلح عليك وتتدفق من الدهاليز العميقة للنفس الإنسانية.
إن واقع الأسر بإجراءاته المصممة بعناية فائقة تهدف إلى قتل إنسانيتك، ومن خلال هذه الإجراءات تتحجر مشاعرك وأنت تعيش بحكم العادة وتسلبك أي قدرة على مغادرة واقع السجن؛ فالسجن يحتجز طاقتك ويسعى إلى ترويضك ويضعك في قلب معركة متواصلة مع الذات ومع الآخرين ومع إجراءات السجن، وهنا يتجلى صراع الإرادات بين إرادة "عنجهية" السجان المدجج بالكراهية والعنصرية والتفنن بأساليب الإيذاء النفسي والمعنوي، وإرادة السجين التي تدافع عن ذاتها وتقاوم محاولات طمس روحها الإنسانية من خلال التسلح بالأمل والحلم والانتماء للقضية التي ناضل الأسير من أجلها.
وعالم السجن ليس عالماً مثالياً كما يتصور البعض، بل هو عالم يغص بكل ما يثقل النفس البشرية من تناقضات وهواجس تبدأ من الصراع مع الذات وهواجسها وتناقضاتها، ثم تناقضات مع الآخرين ممن هم حولك من الأسرى، وصولاً إلى الصراع مع السجان وإجراءاته، ولعل أشرس هذه الصراعات هي الصراع مع الذات حين تستيقظ الهواجس وتولد الرغبات والآمال والأحلام وتحاول مقاومة كل أشكال الحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية.
أجل الحرمان فالأسير الفلسطيني محروم من كل شيء ولا يحيا حياة طبيعية، فثمة فصل كامل بينة وبين الحياة الطبيعية ويجد نفسه يحيا في زمن أيامه وإجراءاته متشابهة، وبهذا يظل يدور في هذه الحلقة الجهنمية المفرغة ولا سبيل لكسر هذه الحلقة إلا عبر الآمال والأحلام وسعة الخيال؛ فالخيال هو سلاحك للحفاظ على ذاتك من التكلس وحماية إنسانيتك من كل ما ينتهكها من إجراءات يسعى إلى طمسها وجعلها تتروض وترضخ أمام أبسط الإجراءات وكأن هذه الإجراءات تقول لك: إن السجن هو قدرك النهائي ولا سبيل لك سوى الإذعان والقبول بالأمر الواقع.
إن هذه الإجراءات تترك آثاراً غير مباشرة بما تستنبطه النفس من الحرمان والأوجاع تترك لدى الأسير عذاباً نفسياً يومياً لا فكاك منه ولهذا يلجأ الأسير إلى الخيال ونبش ذاكرة الماضي لإيقاظ كل لحظة راقدة والبحث في كل محطة وكل حادث مر في حياته، أو يحلم في حياته القادمة ويرسم أحلامه وآماله وما يتوق إليه في الحياة إن حدثت المعجزة وجاءت لحظة الحرية.
ومع توالي السنوات يصيبك نوع من الضجر وأنت تعيد اجترار الذكريات الماضية فتستيقظ الهواجس والرغبات الوجودية المدفونة في أعماق نفسك وأهمها التوق لتحقيق الرغبة الجامحة بالأبوة، وتبقى هذه المشاعر تتسلل إليك ومع الوقت تشّكل درباً ومساراً عبر الذاكرة وأنا شخصياً مررت بلحظات تفكير عميقة حاولت فيها مراراً مقاومة هذه الرغبة التي لم يخيل إليّ يوماً أنها ستساورني أو تشّكل حاجة ملحة وضرورية في حياتي، ومع كل مقاومة كانت تتلبسني هذه الرغبة وتهيمن عليّ إلى أن استسلمت أمامها رغبة أو توقاً يشبه الحلم ويُشّكل لي ملاذاً وملاجئاً معنوياً بلحظات الخلوة مع الذات.
ومع الوقت أخذت تنمو هذه الرغبة حتى أصبحت حلماً مقدساً أن أنجب طفلة وهذه الطفلة ولدت في مخيلتي منذ ثمان سنوات وباتت ترافقني كظلي وتلازمني كأنفاسي والاسم الذي اخترته لابنتي المتخيلة هو "شادن" أما سبب اختيار هذا الاسم فيعود إلى حادثة غريبة منذ أيام الطفولة.
كنت فتى في الثالثة عشر من عمري في أثناء الانتفاضة الأولى وأذكر أنه كان لدينا ثلاثة رؤوس من الماعز أخرج بها لكي ترعى في الجبال، وذات يوم بينما كنت أقود الماعز للمرعى وقد كان الفصل ربيعاً رأيت على بعد عشرات أمتار مني غزالة تقف بإصرار وتتطلع إلّي، لفت انتباهي هذا المشهد الغريب وكما هو مألوف أن الغزلان تفر بعيداً ما أن ترى شخصاً يقترب منها. إذن ما بال هذه الغزالة تقف ولا تفر وهي على بعد مسافة غير آمنة ؟
وصار فضولي يزداد كلما اقتربت منها تبتعد قليلاً ثم ما تلبث أن تفر وتعود وتحدق بي بنظرات لم أفهمها، وما هي إلا لحظات حتى أدركت السبب لقد كانت هذه الغزالة لتوها قد وضعت مولودها رأيته بين الحشائش يحاول الوقوف على قدميه يخطو بضع خطوات باتجاه أمه ثم ما يلبث أن يقع أرضاً، كان مشهداً آسراً بروعته وجماله تراكضت بفرح الفتية نحو هذا الغزال الصغير وأمسكت به وبعد قليل تبينت أنها غزالة أنثى، كانت هذه الظبية الصغيرة تثغو وتحاول الإفلات من بين يدّي للحاق بأمها التي كانت لا تزال تقف في مكانها وترمقني بنظرات غامضة أقرب إلى التوسل والاستهجان والجزع، وبعد أن يئست أمام إصراري على الاحتفاظ بابنتها أدارت ظهرها وولت هاربة .
أما أنا فكانت سعادتي بالغة فقد جعلتها ترضع من ضرع الماعز، ثم أخذتها معي إلى البيت دون أن تساورني أية مشاعر من الشفقة أو الحزن أو الند، وفي البيت عاشت في الحظيرة مع الماعز وأخذت أرقبها كل يوم وهي تكبر وتتقافز أمامي كان مشهداً رائعاً يسر الناظرين إلى أن جاء ذلك اليوم الذي سيورثني حزناً لا يزال ماثلاً في الوجدان .
كنت قد قررت أن أجلب لهذه الغزالة حليباً صناعياً حتى تكبر بسرعة إلى جانب حليب الماعز، وما أن رضعت الحليب من القارورة الأولى التي اعددتها لها حتى أخذت تتمايل وتقع أرضاً وبعد ساعة وجدتها ميتة لقد قتلها الحليب الصناعي.
أحسست بحزن عميق بفقدانها، تذوقت طعم الخسارة والفقدان، ومضت الأيام ونسيت هذه الحادثة مع الوقت. وفي السجن لأننا نعيش على ذكريات الماضي والتنقيب عن كل شذرة أو حادثة قابعة فوق ركام الذكريات خرجت هذه الحادثة من دهاليز الذاكرة وبقي مشهد الغزالة حين عثرت عليها يتكرر في مخيلتي وهي تحاول الوقوف في محاولة للحاق بأمها ثم تعود وتقع وتعاود الكرة ثانية.
احتل هذا المشهد مخيلتي فطفقت أبحث عن اسم الغزالة الصغيرة في مثل هذا العمر إلى أن عثرت عليه حيث يقال للغزالة المولودة حديثاً وهي تحاول الوقوف وتسقط أرضاً بالشادن.
أعجبني المسمى فأطلقته اسماً على ابنتي المتخيلة التي صار اسمها منذ ثماني سنوات "شادن".
إذن باتت "شادن" تستوطن بروحي منذ ثمانية أعوام وغدت أسوة جميلة وأرقاً رائعاً وغيبوبة عشق صوفية لا أرغب في الصحو منها وكلما استذكرتها في خلوتي مع ذاتي تضجر قلبي بالياسمين، وأزاحت عن نفسي أي تجهم وتكدر، أرنو إليها بعين قلبي كل يوم فأجدها أجمل أوهامي على الإطلاق ولولاها لما كان بوسعي مقاومة الأسر وكما يقول محمود درويش:
والسرابُ كتابُ المسافر في البيد
لولاه، لولا السراب، لما واصل السيرَ
بحثاً عن الماء
أجل أنا في هذه الصحراء الجافة كانت "شادن" سرابي الجميل وإشراقة فرح ما فتئت تكبر في فؤادي وهذه الابنة التي أعكف على رعايتها كل يوم شقية ومشاغبة ولا تزال تحبو ولم تكبر منذ ثمانية أعوام وتوقف الزمن لديها مثلي، لا تزال في عمر الزهور، وتثغو بالحروف والكلمات ألوذ إليها كل يوم كلما خلوت لنفسي أداعبها وأضاحكها وأمازحها، وقد مثلت "شادن" عامل استقرار نفسي وعاطفي ووجداني وحالة جمالية روحية استشعرها وأتذوقها في كل لحظة وحافظت على دفئ روحي وحمتني من التبعثر والجفاف لهذا أبقيتها حية في أعماقي، وكلما تعكر صفوي دأبت على الفرار إليها لتهدأ نفسي.
بقيت "شادن" سري المقدس الذي لم أبح به سوى لقلة من الأصدقاء وظلت عشقي الأبدي وحلمي الأخضر الذي لا يجف وبقيت هذه الحالة لسنوات إلى أن ظهرت " صفا" في حياتي قبل أسابيع فقط.
"صفا" فتاة سورية بعمر الزهور أكملت قبل أيام عامها الثالث والعشرين وتدرس الهندسة الزراعية عانت "صفا" مثل الملايين من أبناء شعبنا السوري من مأساة الحرب التي ما زالت مستمرة حتى اليوم أصابتها المأساة كما أصابت غيرها، وعانت من الحرب والتشرد واستشهدت والدتها في إحدى الغارات الجوية على دير الزور، وأثناء الحرب المستمرة منذ سنوات تشردت عائلتها فنصفهم يعيش في أوروبا والنصف الآخر ومن بينهم "صفا" لا يزال مشردا ًداخل الأراضي السورية.
دأبت "صفا" على متابعة كتاباتي على المواقع الالكترونية وأخذت تتواصل مع أخي عبر مواقع التواصل الاجتماعي أشار لي شقيقي بأن ثمة فتاة سورية اسمها "صفا" تتواصل معه يومياً وقد اختارت أن أكون أبا لها اعتبرت الأمر دعابة في البداية كما يحدث لنا عادة في الحياة إلا أن الأمر تكرر بإلحاح باتت "صفا" في الواقع تلعب دور الابنة التي تسأل عن أباها مع أن أباها الحقيقي لا يزال على قيد الحياة وتربطها به علاقة حميمة، ومع الأيام أخذ يتسلل إليّ شعور بالفرح لقد عزفت "صفا" على وتر حساس بداخلي كيف تسنى لها أن تحرك هذه الرغبة من بين سطوري وأشعاري.
أخذ طيف "صفا" يداهمني وانتابتني مشاعر متضاربة أفكر فيها على الدوام، ماذا يعني أن تكون ابنتي لقد كان الوجه الأهم في معاناتي يتعلق بالزمن فأنا أحس بأن عمري سبعة وعشرين عاماً فكيف تكون ابنتي في الثالث والعشرين؟ !
بدخول "صفا" في حياتي تنبهت لعمري وتنبهت للزمن فأنا أكبرها بعشرين عاماً عندها شعرت بالرعب فنحن نحسب أننا ما زلنا صغاراً، وبعد أن بدأت باسترجاع ذاكرتي وجدت أن من هم في عمري بات لديهم أبناء وبعضهم بات لديهم أحفاد، كيف انهمكنا بحياة السجن ونسينا أعمارنا التي نبتت دون أن نشعر بها ؟.
إذاً من المنطقي أن تكون "صفا" ابنتي، فقد كانت ترغب بصلة ما معي ولم تجدها سوى بمشاعر الأبوة فإذا كانت قد اختارتني أباً فكيف لي أن أمانع؟
أما الوجه الآخر في معاناتي فقد أخذت "صفا" تزاحم "شادن" بالقلب، الواحدة منهن تطرد الأخرى وتحل مكانها وتتناوبان على الصراع في قلبي، وبت استشعر عذاباً وقهراً ووجعاً.
المسألة ليست قبولاً أو رفضاً لأبوتي لـ"صفا" إنها مسألة إحساس إنساني وجودي سام لي ولها، لقد كانت "شادن" تمثل حالة السكينة والجمال المطلق في وجداني، ثم جاءت "صفا" وحركت مياهي الراكدة وأهيم لهذه الحالة التي باتت تتملّكني كيف تسنى لهذه الفتاة أن تحدس توقي للأبوة؟ وتدخل على أمواج أثيري؟!.
أمضي أياماً متقلباً تأكلني نيران الأرق الجميل أخذت "صفا" تتلبسني وتتداخل مع "شادن" وتتزاحمان معاً لما لا تكن "صفا" ابنتي هي الأخرى؟ كنت على وشك الاختناق وأنا أطحن تحت رحى أحاسيس جديدة لم أعرفها من قبل أحاسيس جميلة تنبض بالأمل.
كم نحن قساة بحق أنفسنا نحن الرجال، نحن المتجهمون دائماً تحت قناع الجدية والوقار، نحن الذين اخترنا طريقاً وعراً فًرض علينا أن نظل متحفزين للمواجهة ونألف سجون الخيال وحين نخلوا إلى أنفسنا نغدو أطفالاً، لدينا قلوب رقيقة تنبض دفئً لعالم من صقيع.
قبلت أن أكون أباً لـ"صفا" أزاحت "شادن" قليلاً لتجد لها مساحة في قلبي، مع أن "شادن" لا تزال متربعة كملكة على عرش القلب حيث تمتزج الحقيقة بالمجاز والواقع مع الحلم وأصبحت أباً لابنتين واحدة تصارع من أجل النجاة من قلب طاحونة الموت في سوريا، والأخرى تصارع من أجل الخروج إلى الوجود والحضور من رحم الغياب، وأب مغترب يقبع في الأسر، وهنا تتمازج كافة العناصر الوجودية بقساوتها المفجعة؛ فالحلم والأسر والواقع والحياة والموت والأمل واليأس وكلها عناصر لا يكاد يفصل بينها شعرة واحدة ولا أدري كيف يمكننا احتساب المكاسب والخسارات في رحلة البحث عن المعنى في هذه الحياة؟!
شكلّت لي "صفا" وجها للمعنى فإذا كان السجن يشّكل لي خسارة فقد كسبت بعد ستة عشر عاماً فتاة صغيرة لقد كانت تعويضاً لي عن خساراتي .
أخذت "صفا" تحتل مساحة شاسعة من القلب والوجدان أرسلت لي أشعارها وكلمات دافئة، وأرسلت لها عدة رسائل قصيرة طارت بها فرحاً وأمطرتني بسيل متدفق من المشاعر الإنسانية الدافئة، ومنذ ظهورها في حياتي أزاحت كثيراً من الغيوم الداكنة في سمائي وأخذت حياتي تصفو ويتألق اسمها في فؤادي وصار لديّ متسعاً من الحلم ولن أتعب من مواصلته.
أرسلت لي "صفا" عدداً من صورها تأملتها مراراً كانت جميلة ومشرقة ومن عينيها يتسلل بريق من الجمال والبراءة والحنان، وبوجودها في صحراء غيابي تسلقت جبلاً شاهقاً من السعادة ووصلت إلى قمة سعادتي، وهناك التقيت "بشادن وصفا" عانقتهما بكل ما أوتيت من فرح، وهن يلامسن أوتار قلبي وأشرقت شمس البهجة في أعماقي، وضج قلبي بنشوة لم أعرفها يوماً ولم أقاوم دمعة سقطت من عيني لقد صرت أباً.
انتهى ... بقلم الاسير الفلسطيني #كميل_ابو_حنيش
مقال بقلم/ الأسير الفلسطيني #كميل_ابو_حنيش
كنت في السابعة والعشرين من عمري عندما ولجت قدماي عتبة السجن المؤبد، وبوسعي أن أزعم أن إحساسي بالسجن لم يتغير حيث لا زمن إحساس فلقد توقف عمري عند السابع والعشرين رغم وجود ستة عشر عاماً على وجودي في الأسر وبهذا يكون عمري الحقيقي اليوم هو ثلاثة وأربعين عاماً؛ فالعمر يقاس بالشعور لا بعدد السنوات كما يقال، وهذه الحالة كادت تنطبق على جميع الأسرى الذين يمضون سنواتاً طويلةً داخل الأسر ويشعرون بأن أعمارهم قد توقفت عند اللحظة التي دخلوا فيها السجن، وبهذا العمر الذي دخلت به السجن لم تكن العائلة والأطفال تشّكل هماً لي ولكثيرين مثلي ممن اختاروا طريق النضال،
لذا دخلت السجن وكنت متحرراً من أي أعباء عائلية وهو ما يبعث على الارتياح قليلاً قياساً بالأسرى الذين تركوا خلفهم زوجات وأطفال وطفقوا يتجرعون ألوان العذاب والحرمان والشوق والأوجاع والحسرات وهم بعيدين عن عائلاتهم، غير أن هذه القضية في رحلة الأسر لا تقف عند هذه الحدود إذ تصبح سيفاً ذو حدين، فمن كان لديه زوجة وأطفال يتمنى كما لو أنه كان أعزباً مثلنا ومتحرراً من أية أعباء، ومن ناحية ثانية فإن الأسير الأعزب مع توالي السنوات يتمنى لو أنه تزوج وأنجب أطفالاً، ففي السجن ثمة نزيف متواصل لسنوات العمر وشعور عميق بالخسارة والحرمان، ومهما حاولت إشغال نفسك إلا أن ثمة أشياء تبدأ بالتزاحم في رأسك، وثمة هواجس ومشاعر وحاجات ورغبات تستيقظ من مراقدها بصورة لا إرادية مهما حاولت قمعها أو التحايل عليها إلا أنها تظل تلح عليك وتتدفق من الدهاليز العميقة للنفس الإنسانية.
إن واقع الأسر بإجراءاته المصممة بعناية فائقة تهدف إلى قتل إنسانيتك، ومن خلال هذه الإجراءات تتحجر مشاعرك وأنت تعيش بحكم العادة وتسلبك أي قدرة على مغادرة واقع السجن؛ فالسجن يحتجز طاقتك ويسعى إلى ترويضك ويضعك في قلب معركة متواصلة مع الذات ومع الآخرين ومع إجراءات السجن، وهنا يتجلى صراع الإرادات بين إرادة "عنجهية" السجان المدجج بالكراهية والعنصرية والتفنن بأساليب الإيذاء النفسي والمعنوي، وإرادة السجين التي تدافع عن ذاتها وتقاوم محاولات طمس روحها الإنسانية من خلال التسلح بالأمل والحلم والانتماء للقضية التي ناضل الأسير من أجلها.
وعالم السجن ليس عالماً مثالياً كما يتصور البعض، بل هو عالم يغص بكل ما يثقل النفس البشرية من تناقضات وهواجس تبدأ من الصراع مع الذات وهواجسها وتناقضاتها، ثم تناقضات مع الآخرين ممن هم حولك من الأسرى، وصولاً إلى الصراع مع السجان وإجراءاته، ولعل أشرس هذه الصراعات هي الصراع مع الذات حين تستيقظ الهواجس وتولد الرغبات والآمال والأحلام وتحاول مقاومة كل أشكال الحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية.
أجل الحرمان فالأسير الفلسطيني محروم من كل شيء ولا يحيا حياة طبيعية، فثمة فصل كامل بينة وبين الحياة الطبيعية ويجد نفسه يحيا في زمن أيامه وإجراءاته متشابهة، وبهذا يظل يدور في هذه الحلقة الجهنمية المفرغة ولا سبيل لكسر هذه الحلقة إلا عبر الآمال والأحلام وسعة الخيال؛ فالخيال هو سلاحك للحفاظ على ذاتك من التكلس وحماية إنسانيتك من كل ما ينتهكها من إجراءات يسعى إلى طمسها وجعلها تتروض وترضخ أمام أبسط الإجراءات وكأن هذه الإجراءات تقول لك: إن السجن هو قدرك النهائي ولا سبيل لك سوى الإذعان والقبول بالأمر الواقع.
إن هذه الإجراءات تترك آثاراً غير مباشرة بما تستنبطه النفس من الحرمان والأوجاع تترك لدى الأسير عذاباً نفسياً يومياً لا فكاك منه ولهذا يلجأ الأسير إلى الخيال ونبش ذاكرة الماضي لإيقاظ كل لحظة راقدة والبحث في كل محطة وكل حادث مر في حياته، أو يحلم في حياته القادمة ويرسم أحلامه وآماله وما يتوق إليه في الحياة إن حدثت المعجزة وجاءت لحظة الحرية.
ومع توالي السنوات يصيبك نوع من الضجر وأنت تعيد اجترار الذكريات الماضية فتستيقظ الهواجس والرغبات الوجودية المدفونة في أعماق نفسك وأهمها التوق لتحقيق الرغبة الجامحة بالأبوة، وتبقى هذه المشاعر تتسلل إليك ومع الوقت تشّكل درباً ومساراً عبر الذاكرة وأنا شخصياً مررت بلحظات تفكير عميقة حاولت فيها مراراً مقاومة هذه الرغبة التي لم يخيل إليّ يوماً أنها ستساورني أو تشّكل حاجة ملحة وضرورية في حياتي، ومع كل مقاومة كانت تتلبسني هذه الرغبة وتهيمن عليّ إلى أن استسلمت أمامها رغبة أو توقاً يشبه الحلم ويُشّكل لي ملاذاً وملاجئاً معنوياً بلحظات الخلوة مع الذات.
ومع الوقت أخذت تنمو هذه الرغبة حتى أصبحت حلماً مقدساً أن أنجب طفلة وهذه الطفلة ولدت في مخيلتي منذ ثمان سنوات وباتت ترافقني كظلي وتلازمني كأنفاسي والاسم الذي اخترته لابنتي المتخيلة هو "شادن" أما سبب اختيار هذا الاسم فيعود إلى حادثة غريبة منذ أيام الطفولة.
كنت فتى في الثالثة عشر من عمري في أثناء الانتفاضة الأولى وأذكر أنه كان لدينا ثلاثة رؤوس من الماعز أخرج بها لكي ترعى في الجبال، وذات يوم بينما كنت أقود الماعز للمرعى وقد كان الفصل ربيعاً رأيت على بعد عشرات أمتار مني غزالة تقف بإصرار وتتطلع إلّي، لفت انتباهي هذا المشهد الغريب وكما هو مألوف أن الغزلان تفر بعيداً ما أن ترى شخصاً يقترب منها. إذن ما بال هذه الغزالة تقف ولا تفر وهي على بعد مسافة غير آمنة ؟
وصار فضولي يزداد كلما اقتربت منها تبتعد قليلاً ثم ما تلبث أن تفر وتعود وتحدق بي بنظرات لم أفهمها، وما هي إلا لحظات حتى أدركت السبب لقد كانت هذه الغزالة لتوها قد وضعت مولودها رأيته بين الحشائش يحاول الوقوف على قدميه يخطو بضع خطوات باتجاه أمه ثم ما يلبث أن يقع أرضاً، كان مشهداً آسراً بروعته وجماله تراكضت بفرح الفتية نحو هذا الغزال الصغير وأمسكت به وبعد قليل تبينت أنها غزالة أنثى، كانت هذه الظبية الصغيرة تثغو وتحاول الإفلات من بين يدّي للحاق بأمها التي كانت لا تزال تقف في مكانها وترمقني بنظرات غامضة أقرب إلى التوسل والاستهجان والجزع، وبعد أن يئست أمام إصراري على الاحتفاظ بابنتها أدارت ظهرها وولت هاربة .
أما أنا فكانت سعادتي بالغة فقد جعلتها ترضع من ضرع الماعز، ثم أخذتها معي إلى البيت دون أن تساورني أية مشاعر من الشفقة أو الحزن أو الند، وفي البيت عاشت في الحظيرة مع الماعز وأخذت أرقبها كل يوم وهي تكبر وتتقافز أمامي كان مشهداً رائعاً يسر الناظرين إلى أن جاء ذلك اليوم الذي سيورثني حزناً لا يزال ماثلاً في الوجدان .
كنت قد قررت أن أجلب لهذه الغزالة حليباً صناعياً حتى تكبر بسرعة إلى جانب حليب الماعز، وما أن رضعت الحليب من القارورة الأولى التي اعددتها لها حتى أخذت تتمايل وتقع أرضاً وبعد ساعة وجدتها ميتة لقد قتلها الحليب الصناعي.
أحسست بحزن عميق بفقدانها، تذوقت طعم الخسارة والفقدان، ومضت الأيام ونسيت هذه الحادثة مع الوقت. وفي السجن لأننا نعيش على ذكريات الماضي والتنقيب عن كل شذرة أو حادثة قابعة فوق ركام الذكريات خرجت هذه الحادثة من دهاليز الذاكرة وبقي مشهد الغزالة حين عثرت عليها يتكرر في مخيلتي وهي تحاول الوقوف في محاولة للحاق بأمها ثم تعود وتقع وتعاود الكرة ثانية.
احتل هذا المشهد مخيلتي فطفقت أبحث عن اسم الغزالة الصغيرة في مثل هذا العمر إلى أن عثرت عليه حيث يقال للغزالة المولودة حديثاً وهي تحاول الوقوف وتسقط أرضاً بالشادن.
أعجبني المسمى فأطلقته اسماً على ابنتي المتخيلة التي صار اسمها منذ ثماني سنوات "شادن".
إذن باتت "شادن" تستوطن بروحي منذ ثمانية أعوام وغدت أسوة جميلة وأرقاً رائعاً وغيبوبة عشق صوفية لا أرغب في الصحو منها وكلما استذكرتها في خلوتي مع ذاتي تضجر قلبي بالياسمين، وأزاحت عن نفسي أي تجهم وتكدر، أرنو إليها بعين قلبي كل يوم فأجدها أجمل أوهامي على الإطلاق ولولاها لما كان بوسعي مقاومة الأسر وكما يقول محمود درويش:
والسرابُ كتابُ المسافر في البيد
لولاه، لولا السراب، لما واصل السيرَ
بحثاً عن الماء
أجل أنا في هذه الصحراء الجافة كانت "شادن" سرابي الجميل وإشراقة فرح ما فتئت تكبر في فؤادي وهذه الابنة التي أعكف على رعايتها كل يوم شقية ومشاغبة ولا تزال تحبو ولم تكبر منذ ثمانية أعوام وتوقف الزمن لديها مثلي، لا تزال في عمر الزهور، وتثغو بالحروف والكلمات ألوذ إليها كل يوم كلما خلوت لنفسي أداعبها وأضاحكها وأمازحها، وقد مثلت "شادن" عامل استقرار نفسي وعاطفي ووجداني وحالة جمالية روحية استشعرها وأتذوقها في كل لحظة وحافظت على دفئ روحي وحمتني من التبعثر والجفاف لهذا أبقيتها حية في أعماقي، وكلما تعكر صفوي دأبت على الفرار إليها لتهدأ نفسي.
بقيت "شادن" سري المقدس الذي لم أبح به سوى لقلة من الأصدقاء وظلت عشقي الأبدي وحلمي الأخضر الذي لا يجف وبقيت هذه الحالة لسنوات إلى أن ظهرت " صفا" في حياتي قبل أسابيع فقط.
"صفا" فتاة سورية بعمر الزهور أكملت قبل أيام عامها الثالث والعشرين وتدرس الهندسة الزراعية عانت "صفا" مثل الملايين من أبناء شعبنا السوري من مأساة الحرب التي ما زالت مستمرة حتى اليوم أصابتها المأساة كما أصابت غيرها، وعانت من الحرب والتشرد واستشهدت والدتها في إحدى الغارات الجوية على دير الزور، وأثناء الحرب المستمرة منذ سنوات تشردت عائلتها فنصفهم يعيش في أوروبا والنصف الآخر ومن بينهم "صفا" لا يزال مشردا ًداخل الأراضي السورية.
دأبت "صفا" على متابعة كتاباتي على المواقع الالكترونية وأخذت تتواصل مع أخي عبر مواقع التواصل الاجتماعي أشار لي شقيقي بأن ثمة فتاة سورية اسمها "صفا" تتواصل معه يومياً وقد اختارت أن أكون أبا لها اعتبرت الأمر دعابة في البداية كما يحدث لنا عادة في الحياة إلا أن الأمر تكرر بإلحاح باتت "صفا" في الواقع تلعب دور الابنة التي تسأل عن أباها مع أن أباها الحقيقي لا يزال على قيد الحياة وتربطها به علاقة حميمة، ومع الأيام أخذ يتسلل إليّ شعور بالفرح لقد عزفت "صفا" على وتر حساس بداخلي كيف تسنى لها أن تحرك هذه الرغبة من بين سطوري وأشعاري.
أخذ طيف "صفا" يداهمني وانتابتني مشاعر متضاربة أفكر فيها على الدوام، ماذا يعني أن تكون ابنتي لقد كان الوجه الأهم في معاناتي يتعلق بالزمن فأنا أحس بأن عمري سبعة وعشرين عاماً فكيف تكون ابنتي في الثالث والعشرين؟ !
بدخول "صفا" في حياتي تنبهت لعمري وتنبهت للزمن فأنا أكبرها بعشرين عاماً عندها شعرت بالرعب فنحن نحسب أننا ما زلنا صغاراً، وبعد أن بدأت باسترجاع ذاكرتي وجدت أن من هم في عمري بات لديهم أبناء وبعضهم بات لديهم أحفاد، كيف انهمكنا بحياة السجن ونسينا أعمارنا التي نبتت دون أن نشعر بها ؟.
إذاً من المنطقي أن تكون "صفا" ابنتي، فقد كانت ترغب بصلة ما معي ولم تجدها سوى بمشاعر الأبوة فإذا كانت قد اختارتني أباً فكيف لي أن أمانع؟
أما الوجه الآخر في معاناتي فقد أخذت "صفا" تزاحم "شادن" بالقلب، الواحدة منهن تطرد الأخرى وتحل مكانها وتتناوبان على الصراع في قلبي، وبت استشعر عذاباً وقهراً ووجعاً.
المسألة ليست قبولاً أو رفضاً لأبوتي لـ"صفا" إنها مسألة إحساس إنساني وجودي سام لي ولها، لقد كانت "شادن" تمثل حالة السكينة والجمال المطلق في وجداني، ثم جاءت "صفا" وحركت مياهي الراكدة وأهيم لهذه الحالة التي باتت تتملّكني كيف تسنى لهذه الفتاة أن تحدس توقي للأبوة؟ وتدخل على أمواج أثيري؟!.
أمضي أياماً متقلباً تأكلني نيران الأرق الجميل أخذت "صفا" تتلبسني وتتداخل مع "شادن" وتتزاحمان معاً لما لا تكن "صفا" ابنتي هي الأخرى؟ كنت على وشك الاختناق وأنا أطحن تحت رحى أحاسيس جديدة لم أعرفها من قبل أحاسيس جميلة تنبض بالأمل.
كم نحن قساة بحق أنفسنا نحن الرجال، نحن المتجهمون دائماً تحت قناع الجدية والوقار، نحن الذين اخترنا طريقاً وعراً فًرض علينا أن نظل متحفزين للمواجهة ونألف سجون الخيال وحين نخلوا إلى أنفسنا نغدو أطفالاً، لدينا قلوب رقيقة تنبض دفئً لعالم من صقيع.
قبلت أن أكون أباً لـ"صفا" أزاحت "شادن" قليلاً لتجد لها مساحة في قلبي، مع أن "شادن" لا تزال متربعة كملكة على عرش القلب حيث تمتزج الحقيقة بالمجاز والواقع مع الحلم وأصبحت أباً لابنتين واحدة تصارع من أجل النجاة من قلب طاحونة الموت في سوريا، والأخرى تصارع من أجل الخروج إلى الوجود والحضور من رحم الغياب، وأب مغترب يقبع في الأسر، وهنا تتمازج كافة العناصر الوجودية بقساوتها المفجعة؛ فالحلم والأسر والواقع والحياة والموت والأمل واليأس وكلها عناصر لا يكاد يفصل بينها شعرة واحدة ولا أدري كيف يمكننا احتساب المكاسب والخسارات في رحلة البحث عن المعنى في هذه الحياة؟!
شكلّت لي "صفا" وجها للمعنى فإذا كان السجن يشّكل لي خسارة فقد كسبت بعد ستة عشر عاماً فتاة صغيرة لقد كانت تعويضاً لي عن خساراتي .
أخذت "صفا" تحتل مساحة شاسعة من القلب والوجدان أرسلت لي أشعارها وكلمات دافئة، وأرسلت لها عدة رسائل قصيرة طارت بها فرحاً وأمطرتني بسيل متدفق من المشاعر الإنسانية الدافئة، ومنذ ظهورها في حياتي أزاحت كثيراً من الغيوم الداكنة في سمائي وأخذت حياتي تصفو ويتألق اسمها في فؤادي وصار لديّ متسعاً من الحلم ولن أتعب من مواصلته.
أرسلت لي "صفا" عدداً من صورها تأملتها مراراً كانت جميلة ومشرقة ومن عينيها يتسلل بريق من الجمال والبراءة والحنان، وبوجودها في صحراء غيابي تسلقت جبلاً شاهقاً من السعادة ووصلت إلى قمة سعادتي، وهناك التقيت "بشادن وصفا" عانقتهما بكل ما أوتيت من فرح، وهن يلامسن أوتار قلبي وأشرقت شمس البهجة في أعماقي، وضج قلبي بنشوة لم أعرفها يوماً ولم أقاوم دمعة سقطت من عيني لقد صرت أباً.
انتهى ... بقلم الاسير الفلسطيني #كميل_ابو_حنيش
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق