أنا وأنتَ
يغادر باب العمارة بعد أن يتأكد من إغلاقه جيداً، ليقف على الرصيف متفيئاً بظل شجرة مميزة بكثرة روادها، ويبحث في جيوب سترته عن لاشيء، وينظر في عقارب ساعته بين فترات الزمن المجزأ، ويدمدم همساً: لقد تأخر .. لا .. لا .. مايزال هناك بعض الثواني للموعد المحدد،.
يسمع فجأة صوت عصام يناديه من داخل سيارة متوقفة بجانبه دون أن ينتبه لوجودها ولا لحظة توقفها، فيتحرك طوعاً باتجاهها، ويختفي ظله تزامناً مع لحظة جلوسه في السيارة بجانب عصام وتنطلق بهما السيارة باتجاه الغرب خارج محيط المدينة.
جهاد: إلى أين نحن ذاهبون؟
عصام: إلى بحيرة الغجر، حيث افتتح في الآونة الأخيرة مطعم على ضفافها، مطعم مميز بنكهة أطباقه وتنوعها، وبجمال موقعه، لنتحادث معاً بما يحلو لنا بعيدين عن مداخلات الآخرين، ومؤثراتهم العاطفية.
جهاد: أليس المكان بعيداً؟
عصام: نعم لكننا بحاجة للهدوء والسكينة وإلى مجاراة الطبيعة ومحاكاتها والاستمتاع بجمالها وطيب عطرها، وإلى الاقتداء بصبرها وحكمتها وتوازنها.
وصمت حين شعر أن جهاد مشغوف بسماع صوت فيروز وهي تغني "أعطني الناي – حبيتك بالصيف حبيتك بالشتي – أنا وشادي – كان الزمان وكان".
وقبل المنعطف القادم نظر عصام إلى المرآة الجانبية ليتأكد من إمكانية الانعطاف يميناً، لمح دموع متزاحمة على خدود جهاد، فبادره متسائلاً: ماذا بك؟
جهاد: لقد تأثرت بمعاني كلمات أغاني فيروز وصورها الجميلة، إضافة إلى صوت فيروز الملائكي، فشعرت كأنني أقرأ أصدق وأنبل صفحات النفس البشرية، صفحات مكتوبة بريشة من عبق الأمس وكلما أسمعها أحاول أن أجمع مكونات وجودي، لعلني أصل إلى منابع روحي وجذور أحلامي وذكرياتي لأشعر بالفرح والسعادة والاطمئنان.
عصام: ولماذا الحزن والدموع إذن؟
جهاد: إنها دموع المقارنة والمقاربة بين الأمس واليوم، بين الغربة والاغتراب، فقبل عشرات السنين عندما كنت أستمع إليها وأنا في ديار الغربة كنت أشعر بأن روحي محلقة على أجنحة السحاب الطائرة في سماء الوطن، وأنا أركض بين ربوعه وأجلس بين ضلوعه مستمتعاً بهوائه العليل وثملاً بعصير كرمة حنانه، أما اليوم فعندما أسمعها وأنا في وطني وبين الأهل والأصدقاء أشعر بالغربة والضياع بعيداً عن ذاتي وأحلامي وحتى عن أقرب الناس لي.
يوقف عصام السيارة ويقول: تفضل هاقد وصلنا.
وبعد أن يترجلا من السيارة ويجلسا إلى طاولة على ضفاف البحيرة ليمتعا أنظارهما بجمال لوحة غروب الشمس وهي تحاول أن تطبق جفنها وتلملم بقايا نهايات ثوبها لترحل إلى فراشها المنبسط خلف جدار الأفق، ينظر جهاد محدّقاً في عين الشمس ويقول:
مسرعة هي خطوات عمر الشباب دوماً وكأنها تقطع مسافات السنين بأجنحة النسور وتحلق بعيدة عنا دون رجوع، فتصبح أحلامنا مدفونة في تجاويف أنفسنا كقصور مهدمة الأطراف ومطمورة في باطن الأرض.
عصام: أتدري إنك تظلم عمر الشباب وتنكر فضائل أحلامه وطموحاته وتحمله مسؤولية الحياة كاملة؟
جهاد: أرجوك قل لي ماذا قدم لنا سوى أنه جعلنا نغرق في أحلامنا ونحلق عالياً على أجنحة آمالنا وطموحاتنا، لنُقذف أخيراً في أتون التعاسة والفشل.
عصام: لتعلم أن عمر الشباب هو الذي احتضن بذور تربيتنا وأحلام طفولتنا، وفتح لنا أبواب الحياة على مصراعيها بكل جرأة وعنفوان، وترك لنا حرية الاختيار بعد أن فرش لنا طريق المستقبل، ومهّد لنا سبل السعادة والنجاح.
جهاد: وأين هو الآن هذا الذي تتكلم عنه؟
عصام: في واقعنا وفي ذاتنا وعند أحبتنا وأصدقائنا، لكن نحن متقاعسون مستكينون ولانبحث جيداً، لا بل لانحاول أن نبحث أبداً.
جهاد: كيف؟ وضح لي ذلك أرجوك !!
عصام: يجب أن تعرف بأن الإنسان الباحث عن السعادة يجب ألا يستمر في رؤية أحلامه بعد أن يستيقظ، بل عليه دائماً أن يعيد لذاكرته سحر المعرفة بما يدور حوله، وجمالية الأحداث والمواقف التي عاشها واهتدى بها لطريق مستقبله، وأن يبتعد عن الإحساس بالنقص، لأن ذلك يضعف النفوس ويخنق الطموح ويبعد السعادة ويبددها، وعليه أن يؤمن بتباين الآراء، وأن يدرك بوجود طرق كثيرة وأساليب متعددة لحل أية مشكلة قد تواجهه، وأن يعترف بأن لكل جيل أحلامه وآراءه ومسؤولياته.
جهاد: وما العمل الآن؟ ومن أين البداية؟
عصام: من الذات، من إعادة الذكريات الحلوة وسردها بصفاء ونقاء، والابتعاد عن سلبيات الآخرين والتمسك بإيجابياتهم، والإيمان بأن الحوار البناء مع الآخرين بهدوء وروية هو الأساس في تمتين العلاقات الاجتماعية، والآن مارأيك بفنجان قهوة قبل أن نغادر؟
في طريق العودة والليل منشغل في جمع آهات الناس ومخاوفهم، والقمر سارح على الطرقات ينير طريق المسافرين، فتح جهاد نافذة السيارة وأخذ نفساً عميقاً من هواء الليل المنعش محاولاً جمع ألق ذاكرته حين اتقدت وتوهجت، فراح يرمق نجوم الليل وهي تتسابق على دروب العشاق لترنو إليهم وتكشف أسرارهم، وبدأ بقراءة أولى صفحات ذاكرته وأجملها بصوت عال دون أن يدري قائلاً:
أيام زمان، وفي لحظة سكون من أمري، بعيداً عن خفقان قلبي، تهت في ذاتي حين شردت بنات أفكاري راحلة تقطع مسافات الزمن على مدرجات الكون، غارقة في مجراته ومتاهات تكوينه، وأنا جالس على مقعد قيل لي إنه ملكي منذ لحظة وجودي لحين رحيلي، محدقاً عبر نافذة القطار السائر قدماً دون رجوع، أراقب جمال الطبيعة وثوبها الفضفاض كيف يطوي بين ثناياه وهاد الأرض وتضاريسها .. جبال ووديان .. أنهر وبحار .. وكل مايتراقص أمامي من قرى وبلدات ومدن وقارات بكامل مكوناتها وقاطنيها، حتى أحسست بنسمة من أثير رباني تلتصق وتداعب روحي، وظل أنثوي يسربل مدارات وجودي، وهالة من نور متجسد جالستني وكلمتني وحادثتني وسلبتني من ذاتي، فانتظمت دقات قلبي حين سمعتها تبادرني بالتحية طالبة مني الجلوس بجانبي، فأومأت برأسي موافقاً وكلمات متفرقة متلعثمة هربت من بين شفاهي لترحب بها، ومازلت أتذكر طلتها البهية ورائحة عطرها الممزوج برائحة أنوثتها، وشعرها الأسود الداكن الكثيف منسدل بحرية على كتفيها ومضاء بهالة من نور وجهها الدافئ، نعم كانت ومازالت امرأة صحيحة الجسم، وتمتاز بجمال طفولي دائم، وبعاطفة صادقة تشع طيبة وحبوراً في النفس وثقة بالذات.
وصمت جهاد، وغرق في صمته حين مرت به نسمة هواء محملة برائحة الأرض المعطاءة، حتى شعر بأن بذور حياة جديدة قد بدأت تتفتح في تربة روحه، وأن أجمل حوريات بنات أفكاره بدأت بالتسابق على خشبة مسرح ذاكرته لتتوجن أجملهن، لكنه أسدل الستار على بوابة ذاكرته لقناعته بأنه لن يستطيع يوماً أن يختار أفضلهن، لأن لكل منهن خصوصيتها وجمالها وطلتها وتاريخها ومكانتها.
والتفت إلى عصام شاكراً له على صداقته ومؤكداً له أنه الوحيد الذي هداه لطريق السعادة بعد أن تاه عنها.
وشعر كأن عصام يرغب في التوضيح، فتابع كلامه: لأنك أرشدتني لمعرفة ذاتي وعلمتني أن أشد أنواع الغربة قساوة هي الاغتراب عن الذات، وأن التعايش مع الحنين والذكريات الحلوة هو منبع السعادة، وأن إعطاء العقل الوقت الكافي لاتخاذ القرار هو عين الصواب.
وصمت مجدداً منتظراً رد عصام ولكن هيهات أن يسمع الرد، وكيف يسمعه وهو حين التفت جانباً لم يجد أحداً بجانبه، فتملكه الخوف وبدأ يسأل نفسه: أين هو؟ ومن كان يكلمني؟ ومن يقود السيارة؟ ومن يكون عصام أصلاً؟
وبدون تردد فتح باب السيارة وركض بعيداً عنها باتجاه أضواء المدينة وأحيائها، متلبساً ظله، مهتدياً بنور القمر، منادياً بأعلى صوته: أين أنت؟ ومن تكون؟.
وضاع صوته في عتمة الليل دون جواب، فبلع لسانه وأطبق فمه ولملم ذكرياته وأحلامه وحضنها وضمها بين أضلعه خائفاً عليها من الضياع من سراديب الظلمة ومن برودة أيام الخريف، وركض مسرعاً نحو الأضواء المتلألئة أمامه دون أن ينظر إلى الوراء، ليقف فجأة على عتبة الزمن حين سمع صوت حبيبته ورفيقة عمره تناديه وأنفاسها تقبّل جبينه، فيفتح عينيه ليرى مجدداً طلتها البهية وشعرها الأسود الداكن الكثيف منسدلاً بحرية على كتفيها وهالة من نور تحيط وجهها الدافئ: استيقظ ياحبيبي لنشرب قهوة الصباح فالأولاد ينتظروننا .
انتهت
يغادر باب العمارة بعد أن يتأكد من إغلاقه جيداً، ليقف على الرصيف متفيئاً بظل شجرة مميزة بكثرة روادها، ويبحث في جيوب سترته عن لاشيء، وينظر في عقارب ساعته بين فترات الزمن المجزأ، ويدمدم همساً: لقد تأخر .. لا .. لا .. مايزال هناك بعض الثواني للموعد المحدد،.
يسمع فجأة صوت عصام يناديه من داخل سيارة متوقفة بجانبه دون أن ينتبه لوجودها ولا لحظة توقفها، فيتحرك طوعاً باتجاهها، ويختفي ظله تزامناً مع لحظة جلوسه في السيارة بجانب عصام وتنطلق بهما السيارة باتجاه الغرب خارج محيط المدينة.
جهاد: إلى أين نحن ذاهبون؟
عصام: إلى بحيرة الغجر، حيث افتتح في الآونة الأخيرة مطعم على ضفافها، مطعم مميز بنكهة أطباقه وتنوعها، وبجمال موقعه، لنتحادث معاً بما يحلو لنا بعيدين عن مداخلات الآخرين، ومؤثراتهم العاطفية.
جهاد: أليس المكان بعيداً؟
عصام: نعم لكننا بحاجة للهدوء والسكينة وإلى مجاراة الطبيعة ومحاكاتها والاستمتاع بجمالها وطيب عطرها، وإلى الاقتداء بصبرها وحكمتها وتوازنها.
وصمت حين شعر أن جهاد مشغوف بسماع صوت فيروز وهي تغني "أعطني الناي – حبيتك بالصيف حبيتك بالشتي – أنا وشادي – كان الزمان وكان".
وقبل المنعطف القادم نظر عصام إلى المرآة الجانبية ليتأكد من إمكانية الانعطاف يميناً، لمح دموع متزاحمة على خدود جهاد، فبادره متسائلاً: ماذا بك؟
جهاد: لقد تأثرت بمعاني كلمات أغاني فيروز وصورها الجميلة، إضافة إلى صوت فيروز الملائكي، فشعرت كأنني أقرأ أصدق وأنبل صفحات النفس البشرية، صفحات مكتوبة بريشة من عبق الأمس وكلما أسمعها أحاول أن أجمع مكونات وجودي، لعلني أصل إلى منابع روحي وجذور أحلامي وذكرياتي لأشعر بالفرح والسعادة والاطمئنان.
عصام: ولماذا الحزن والدموع إذن؟
جهاد: إنها دموع المقارنة والمقاربة بين الأمس واليوم، بين الغربة والاغتراب، فقبل عشرات السنين عندما كنت أستمع إليها وأنا في ديار الغربة كنت أشعر بأن روحي محلقة على أجنحة السحاب الطائرة في سماء الوطن، وأنا أركض بين ربوعه وأجلس بين ضلوعه مستمتعاً بهوائه العليل وثملاً بعصير كرمة حنانه، أما اليوم فعندما أسمعها وأنا في وطني وبين الأهل والأصدقاء أشعر بالغربة والضياع بعيداً عن ذاتي وأحلامي وحتى عن أقرب الناس لي.
يوقف عصام السيارة ويقول: تفضل هاقد وصلنا.
وبعد أن يترجلا من السيارة ويجلسا إلى طاولة على ضفاف البحيرة ليمتعا أنظارهما بجمال لوحة غروب الشمس وهي تحاول أن تطبق جفنها وتلملم بقايا نهايات ثوبها لترحل إلى فراشها المنبسط خلف جدار الأفق، ينظر جهاد محدّقاً في عين الشمس ويقول:
مسرعة هي خطوات عمر الشباب دوماً وكأنها تقطع مسافات السنين بأجنحة النسور وتحلق بعيدة عنا دون رجوع، فتصبح أحلامنا مدفونة في تجاويف أنفسنا كقصور مهدمة الأطراف ومطمورة في باطن الأرض.
عصام: أتدري إنك تظلم عمر الشباب وتنكر فضائل أحلامه وطموحاته وتحمله مسؤولية الحياة كاملة؟
جهاد: أرجوك قل لي ماذا قدم لنا سوى أنه جعلنا نغرق في أحلامنا ونحلق عالياً على أجنحة آمالنا وطموحاتنا، لنُقذف أخيراً في أتون التعاسة والفشل.
عصام: لتعلم أن عمر الشباب هو الذي احتضن بذور تربيتنا وأحلام طفولتنا، وفتح لنا أبواب الحياة على مصراعيها بكل جرأة وعنفوان، وترك لنا حرية الاختيار بعد أن فرش لنا طريق المستقبل، ومهّد لنا سبل السعادة والنجاح.
جهاد: وأين هو الآن هذا الذي تتكلم عنه؟
عصام: في واقعنا وفي ذاتنا وعند أحبتنا وأصدقائنا، لكن نحن متقاعسون مستكينون ولانبحث جيداً، لا بل لانحاول أن نبحث أبداً.
جهاد: كيف؟ وضح لي ذلك أرجوك !!
عصام: يجب أن تعرف بأن الإنسان الباحث عن السعادة يجب ألا يستمر في رؤية أحلامه بعد أن يستيقظ، بل عليه دائماً أن يعيد لذاكرته سحر المعرفة بما يدور حوله، وجمالية الأحداث والمواقف التي عاشها واهتدى بها لطريق مستقبله، وأن يبتعد عن الإحساس بالنقص، لأن ذلك يضعف النفوس ويخنق الطموح ويبعد السعادة ويبددها، وعليه أن يؤمن بتباين الآراء، وأن يدرك بوجود طرق كثيرة وأساليب متعددة لحل أية مشكلة قد تواجهه، وأن يعترف بأن لكل جيل أحلامه وآراءه ومسؤولياته.
جهاد: وما العمل الآن؟ ومن أين البداية؟
عصام: من الذات، من إعادة الذكريات الحلوة وسردها بصفاء ونقاء، والابتعاد عن سلبيات الآخرين والتمسك بإيجابياتهم، والإيمان بأن الحوار البناء مع الآخرين بهدوء وروية هو الأساس في تمتين العلاقات الاجتماعية، والآن مارأيك بفنجان قهوة قبل أن نغادر؟
في طريق العودة والليل منشغل في جمع آهات الناس ومخاوفهم، والقمر سارح على الطرقات ينير طريق المسافرين، فتح جهاد نافذة السيارة وأخذ نفساً عميقاً من هواء الليل المنعش محاولاً جمع ألق ذاكرته حين اتقدت وتوهجت، فراح يرمق نجوم الليل وهي تتسابق على دروب العشاق لترنو إليهم وتكشف أسرارهم، وبدأ بقراءة أولى صفحات ذاكرته وأجملها بصوت عال دون أن يدري قائلاً:
أيام زمان، وفي لحظة سكون من أمري، بعيداً عن خفقان قلبي، تهت في ذاتي حين شردت بنات أفكاري راحلة تقطع مسافات الزمن على مدرجات الكون، غارقة في مجراته ومتاهات تكوينه، وأنا جالس على مقعد قيل لي إنه ملكي منذ لحظة وجودي لحين رحيلي، محدقاً عبر نافذة القطار السائر قدماً دون رجوع، أراقب جمال الطبيعة وثوبها الفضفاض كيف يطوي بين ثناياه وهاد الأرض وتضاريسها .. جبال ووديان .. أنهر وبحار .. وكل مايتراقص أمامي من قرى وبلدات ومدن وقارات بكامل مكوناتها وقاطنيها، حتى أحسست بنسمة من أثير رباني تلتصق وتداعب روحي، وظل أنثوي يسربل مدارات وجودي، وهالة من نور متجسد جالستني وكلمتني وحادثتني وسلبتني من ذاتي، فانتظمت دقات قلبي حين سمعتها تبادرني بالتحية طالبة مني الجلوس بجانبي، فأومأت برأسي موافقاً وكلمات متفرقة متلعثمة هربت من بين شفاهي لترحب بها، ومازلت أتذكر طلتها البهية ورائحة عطرها الممزوج برائحة أنوثتها، وشعرها الأسود الداكن الكثيف منسدل بحرية على كتفيها ومضاء بهالة من نور وجهها الدافئ، نعم كانت ومازالت امرأة صحيحة الجسم، وتمتاز بجمال طفولي دائم، وبعاطفة صادقة تشع طيبة وحبوراً في النفس وثقة بالذات.
وصمت جهاد، وغرق في صمته حين مرت به نسمة هواء محملة برائحة الأرض المعطاءة، حتى شعر بأن بذور حياة جديدة قد بدأت تتفتح في تربة روحه، وأن أجمل حوريات بنات أفكاره بدأت بالتسابق على خشبة مسرح ذاكرته لتتوجن أجملهن، لكنه أسدل الستار على بوابة ذاكرته لقناعته بأنه لن يستطيع يوماً أن يختار أفضلهن، لأن لكل منهن خصوصيتها وجمالها وطلتها وتاريخها ومكانتها.
والتفت إلى عصام شاكراً له على صداقته ومؤكداً له أنه الوحيد الذي هداه لطريق السعادة بعد أن تاه عنها.
وشعر كأن عصام يرغب في التوضيح، فتابع كلامه: لأنك أرشدتني لمعرفة ذاتي وعلمتني أن أشد أنواع الغربة قساوة هي الاغتراب عن الذات، وأن التعايش مع الحنين والذكريات الحلوة هو منبع السعادة، وأن إعطاء العقل الوقت الكافي لاتخاذ القرار هو عين الصواب.
وصمت مجدداً منتظراً رد عصام ولكن هيهات أن يسمع الرد، وكيف يسمعه وهو حين التفت جانباً لم يجد أحداً بجانبه، فتملكه الخوف وبدأ يسأل نفسه: أين هو؟ ومن كان يكلمني؟ ومن يقود السيارة؟ ومن يكون عصام أصلاً؟
وبدون تردد فتح باب السيارة وركض بعيداً عنها باتجاه أضواء المدينة وأحيائها، متلبساً ظله، مهتدياً بنور القمر، منادياً بأعلى صوته: أين أنت؟ ومن تكون؟.
وضاع صوته في عتمة الليل دون جواب، فبلع لسانه وأطبق فمه ولملم ذكرياته وأحلامه وحضنها وضمها بين أضلعه خائفاً عليها من الضياع من سراديب الظلمة ومن برودة أيام الخريف، وركض مسرعاً نحو الأضواء المتلألئة أمامه دون أن ينظر إلى الوراء، ليقف فجأة على عتبة الزمن حين سمع صوت حبيبته ورفيقة عمره تناديه وأنفاسها تقبّل جبينه، فيفتح عينيه ليرى مجدداً طلتها البهية وشعرها الأسود الداكن الكثيف منسدلاً بحرية على كتفيها وهالة من نور تحيط وجهها الدافئ: استيقظ ياحبيبي لنشرب قهوة الصباح فالأولاد ينتظروننا .
انتهت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق