الجمعة، 31 مايو 2019

القادم ..... بقلم الأديب الراقي جوزيف شماس

القادم

-1-

   الساعة السادسة بعد الظهر، يدخل المدرسة عابراً باحتها ومتجهاً يميناً نحو ممر واسع ليصل إلى مكتبه الكائن في صدارة الممر، يفتح باب المكتب ويدخله دون أن يغلق بابه، ويضع رزمة من الأوراق على طاولة المكتب .. وعلى الفور يتناول سماعة الهاتف ويضغط على أزراره وينتظر صامتاً، وبيده اليمنى يسحب مجموعة محارم ورقية ويمسح عرقه المتصبب منه ويتنهد مدمدماً:
- لو يعود الشباب يوماً ليعيد لي الأمل والهمة وأغادر المخيم فوراً لأرتاح من دروبه الممزقة وغباره الذي لا يهدأ عن الحراك أبداً.
فجأة ينتشر صدى صوته في كامل المبنى ليسمع بعدها خطوات معاونه، وهو ينزل من الطابق العلوي؛ ليقف أمامه صامتاً ومستمعاً لسؤال السيد المدير: هل كل شيء جاهز يا أستاذ محمود!
يجيبه  : نعم يا حضرة المدير. كل شيء على ما يرام.
المدير: أشكرك، وبلّغ عريف الحفل للتقيد بمواقيت إلقاء الكلمات.
عقارب الساعة تقترب من العاشرة ليلاً، وكل شيء سار كما هو مخطط له.
يتقدم عريف الحفل من منصة الإلقاء ويعلن قائلاً :
القلب عندما ينثر مكنوناته على بساط النور، نجد في داخله الحب والكآبة والغربة والألم والشوق والحنين ... لكن الإنسان ذو الفكر النيّر هو من يسربل عواطف القلب رقة وعذوبة ويجد السعادة ويبني صروحاً من الحب والشوق والحنين وينثر السلام . والآن لنحلق معاً على أجنحة الموسيقى ومحاكاتها في الفقرة الختامية التالية.
وعلى الفور أطفأت الأنوار وتوهجت أضواء المشاعل المنثورة على محيط خصر المكان، ودوى الصمت متفجراً في نفوس الحاضرين، حين بدأت أصوات الآلات الموسيقية تحاكي بعضها وتصدح ما طاب لها من الأنغام، ونفوس الحاضرين تحلّق طرباً وابتهاجاً وتتراقص مشاعرهم على أنغام الحوار الدائر بين الآلات الموسيقية، وكأنهم يسمعون زغاريد الأرض وهي تستقبل الغيم الماطر، وأناشيد الفلاحين وهم يجنون المحصول الوافر وهتافات العمال وتراتيل الأطفال بالفجر القادم
وجميعهم يستنشقون عطر رياحين الحب من عزف سميرة على آلة الكمان وكأنها تقول لحبيبها:
- أرجوك ابتعد عني لأنك لا تعرف ما في داخلي وكف نظراتك عني لأنك تكبلني .. وعلى الفور هبت أنامل فادي لتستمد القوة من آلة البيانو وتركض على جباه أصابعه وتحث البيانو على الرد قائلاً: أنا الوحيد الذي يعرفك جيداً.
ترد أوتار الكمان نغماً: ماذا تعرف عني؟
تتراقص أصابع البيانو طرباً وزهواً وترد: أنا أعرف جيداً أن في داخلك طفلة رضيعة وبين ضلوعك صبية أسيرة، وأناملك مرتجفة وفي روحك مواهب دفينة وعواطف حائرة.
تعصف آلة الكمان بأوتارها وتسأله:
ليكن ما تقول عني صحيحاً. ماذا أنت فاعل؟
يضحك البيانو عازفاً ويقول: أنا من سيفطم طفولتك ويحرر صباك ويحضن أنوثتك ويروي عواطفك ويفجر مواهبك، ويبث الدفء في أناملك، وسأكون حبيباً وعبداً لك وحدك .. ويختتم الحفل بوقوف الحاضرين وتصفيقهم الحاد الذي لم ينته بعد ..

-2-

  جلستْ في صفوف المقاعد الأمامية والصمت قد تلبّس وجودها. وهي تصغي لهمسات زميلتها التي تنثر على بساط مسامعها أخبار القادم من قلب الحدث، وتعلمها أن المحاضر ذا مكانة مرموقة بين رفاقه. وهو مناضل لا يعرف التعب والملل وشخصيته محبوبة. ولو سألت عن مكان إقامته لوجدته في قلب كل من يعرفه وفي وجدان كل مواطن شريف. إنه وحدوي العقيدة والمبدأ. وكل أوطان العرب أوطانه.
 وتصمت حين سمعت أمواجاً من التصفيق الهادر وهو يخطو قدماً لمنصة الإلقاء، وحين وصوله حيّا جمهور الحضور وشكرهم وأكد على أهمية وجودهم الذي يعطي معنى حقيقياً وصادقاً لقضايا الأمة وانتمائها الحضاري.
نظرت سميرة إليه للوهلة الأولى وكأنها تنظر للبعيد. ثم عادت ونظرت محدقة ببريق عينيه وملامح وجهه، وتصغي لكلامه وتحاكي ذاتها وتؤكد أنه هو فادي حنا، زميل الدراسة في مرحلتي الإعدادية والثانوية، ورغم سماعها له، وهو يشرح مفهوم المقاومة المسلحة على أنها وسيلة وليست هدفاً ووجودها مرهون بوجود الاحتلال، إلا أنها تسرح على مروج ذاكرتها بعيدة عن المكان الحاضن لوجودها وترحل إلى أيام الصبا والشباب، لتقرأ بعض قصاصات من بواكير عواطفها وحبها الأول وتدمدم:
نعم إنه هو الذي كان أول شعاع أحببته ولم أحب سواه ومنذ ذاك الزمان لم أره ولم أسمع صوته رغم مرور خمسة وعشرين عاماً ومازلت أحبه... آه كم كنت معجبة بذكائه وأناقته وتهذيبه، رغم أنه كان انطوائياً يسمع أكثر من أن يتكلم، ومازلت أتذكر جيداً كيف كان يرتبك ويزداد خجلاً كلما كنت أحاول الاقتراب منه، رغم إحساسي برغبته في إطالة الحديث معي ليبوح لي عن مكنونات روحه ومشاعره، لكنه في كل مرة كان يفصل عناق نظراتنا بأجفانه ويرحل بعيداً عني، وكم من مرة لاحظته يراقبني ويتتبع كل خطواتي وتحركاتي، وآخر لقاء بيننا رمقني بنظرات إعجاب حين ودعته وتمنيت له النجاح والتوفيق، وأتذكر جيداً حين رأيت يومها دموعاً مختبئة في تجاويف عينيه، وكادت أن تفشي سر مشاعره، لكنها تماسكت وتصلبت وهربت تتستر تحت أجفانه خوفاً من إرباكه، ورغم كل السنين التي مضت كنت على أمل اللقاء به. وهاهو الآن واقف أمامي وقد ازداد رجولة وتألقاً وحضوراً وجرأة. وصمت مجدداً على تصفيق الحضور له. ليختم كلامه:
"إخوتي وأخواتي، لقد تعلمنا من تاريخ الشعوب أهمية دور كل واحد منا في المقاومة الشاملة، وأن المقاومة المسلحة هي من أجل الحياة وليست من أجل الممات، وأن الإنسان الحر يعشق الكرامة ولا يقبل الذل والهوان. وشكراً".
على الفور تناولت سميرة ورقة بيضاء، طوتها وأرسلتها بعد أن دونت عليها أحرفاً من ماء نبع شبابها وعنونتها "من يافا إلى القدس" وختمتها بتوقيع ورقم الهاتف..
وبينما كان فادي يرد على أسئلة الحاضرين كان في الوقت ذاته يتصفح مضامين الأوراق المنثورة أمامه، لمح ورقة مكتوب عليها رقم هاتف، وما إن قرأها حتى تلبّسه الصمت وسيطر عليه توتر مألوف عنده ومتعايش معه، توتر يراوده عادة عندما يكون سائراً ومتوحداً مع ذاته في زقاق ضيق لا يعرف نهايته. وشعر بأن ثمة حباً دفيناً قد استيقظ في داخله ونسيم من ذكريات الماضي قد بدأ يهفهف بين ضلوعه. لكنه أسرع في لملمة مكونات وجوده وتابع حديثه .
-3-
  حديقة الفندق تجمل نفسها وتنثر أطيافها وترحب بقدوم ضوء القمر إليها، وهي تراقب كيف يتأرجح فرحاً على صفحة بركة ماء متربعة في قلبها .
وفادي نزيل الفندق يدخلها قبل الموعد المحدد، ويختار ركناً هادئاً فيها، يحاول أن يبث الدفء في ذاكرته ليعيد الحياة لأسراره القديمة. ويفكر جاهداً بمضمون لقائه معها. لكن دون جدوى لأن الخوف قد تملكه وأحس كأنه مقدم على امتحان لا يضمن نتائجه .
رمى بثقل جذعه العلوي على مفاصل ساعديه واتكأ على طاولة أمامه وفنجان قهوته خائف من أن ينزلق من بين يديه . وتوقفت مسارات فكره على مفترق طرق خالية من كل الدلالات . وأسدل جفنيه وغفا على خد الأثير . وفجأة سمع من يناديه من غور غربته، ليجدها واقفة أمامه تلقي عليه السلام ويدها ممدودة لتصافحه. جلسا معاً يحدقان في ملامح بعضهما بعد أن تبادلا عبارات الترحيب.
لحظات من الصمت رحلت عنهما وذهبت لتغفو على صدر الزمن. وبجرأتها المعهودة أزالت جدار الصمت الفاصل بينهما وقالت:
كنت رائعاً وأنت تلقي محاضرتك .
أجابها : شكراً لمجاملتك اللطيفة لي ووجودك قد أعادني إلى أصالتي
أجابته :
وأنت أيضاً أعدت لي أجمل وأقدس ذكرياتي وأفضل أن نستذكرها معاً لنعيد إليها تألقها وجمالها. وتتابع فوراً في سرد ما طاب لها من الذكريات.
يسمعها فادي وهو صامت صاغ مندهش من أنغام نبرة صوتها وقدرته على رسم أجمل لوحات وجودهما في الزمن الماضي وبأدق تفاصيلها وألوانها. وروحه تتلذذ كما يحلو لها من مذاق ذكرياتهما المعتقة بحيث أنه شعر. كأنه يتلذذ مذاق نبيذ معتق مخزن في دنان خشبية محكمة الإغلاق منذ سنين طوال. وبدأت تفوح بين أضلعه روائح من طيبات مولد عائد للحياة مجدداً.     فتسأله:
أراك صامتاً شارداً. هل أزعجتك لأنني سردت لك ذكريات أيام زمان ؟
بل أنا سعيد لسماعها منك. ولكن حين مددت يدك وصافحتني أحسست كأنك قد دفعت بيدك أبواب قلبي وفتحته وأزحت الستار عن أحداث كنت دائماً حريصاً على أن أتركها في أعماق ذاك الزمان. لكنك الآن أعدت إليها الأمل مجدداً. وأخرجتها من قاع الظلمات إلى منبر النور. ونفضت عنها غبار السنين المتراكم وأعدت لها الحياة من جديد. لذا أشكرك لأنك ألبستني ثوباً جديداً لمعنى وجودي.
تبسمت وقالت له :
ليس قبل أن تجيبني على سؤال يهمني أن أسمع جوابه.
تفضلي اسألي. فأنا جاهز للامتحان رغم ضعفي حين أراك.
كنت دوماً من أنصار الهجرة. وتحث الآخرين عليها وخاصة لزملائك الذين كانوا مقربين منك. وكنت تقول لهم من الأفضل لنا أن نهاجر إلى غربة متجانسة بكل معانيها ومضامينها؛ لأنها ستكون خيراً لنا في غربتنا المعقدة التي نعيشها هنا.
تصمت سميرة وترمقه بنظرات حائرة وكأنه ترجوه بأن يوضح لها ماذا كان يقصد بكلامه. وتتمسك بصمتها منتظرة جوابه .
أجابها بكل ثقة:
نعم. كنت من أنصار الهجرة وداعماً لها. وقناعتي كانت منبثقة من الشعور بالغبن الناتج عن كل أنواع التمييز الحاصل بين أبناء الوطن الواحد. وشعور الغربة عندما يخيم على شخص ما ويسيطر عليه ويتأصل فيه. فيولد لديه قناعة بعدم الجدوى من الانتماء للوطن والأرض .
إذنً ما سر وجودك هنا مع أنك سافرت مهاجراً برفقة أهلك ؟
يحدق فادي في عينيها مجدداً ويجيبها بكل جرأة:
نعم لقد سافرت مهاجراً وعدت لوطني وحيداً. وسبب عودتي هو أنت، لأنني منذ أن عرفتك وأحببتك، وجدت فيك ذاتي ووجودي وأرضي ووطني وأمتي وعروبتي ووجداني وكل مقومات حياتي. ولم أستطع أن أنسى شخصك وظلك. وبقيت نور فكري الذي دفعني لأن أعود إلى أرض أبائي وأجدادي وأناضل حيث تناضلين لنتحرر من الاغتراب ومن مخالب الطائفية وأنيابها... أليس هذا سبباً كافياً لعودتي انتمائي ووطني .
تنظر سميرة إليه ملياً وهي تتلمس صدق مشاعره وعواطفه، وتكاد دمعتا حزن وفرح تهربا من عينيها لكن جرأتها زادت من عزم صراحتها، وبادرته بصوت واضح وغني بكل ألوان الحب وأطيافه:
- أنا أطلب يدك للزواج. هل أنت موافق ؟
أجابها على الفور : بكل فخر واعتزاز .. أنا أطلب يدك للزواج هل توافقين ؟
تبسما وضحكا وقبل كل منهما يد الآخر ويمامات الفرح بدأت ترفرف على محياهما ووجودهما معاً. ونادل الفندق يقدم لهما قالباً من الحلوى وفي منتصفه شمعة مضاءة، ويضع أمامهما كوبين عن عصير الفاكهة ويقول لهما :
- ألف مبروك .. وهذه تقدمة من مدير الفندق وأنتما ضيفاه.

انتهت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

صراع بين الناس..بقلم الشاعر/كمال الدين حسين

 صداعُ الفكرِ في أُذني ورأسي أتاني منْ صراعٍ بين ناسٍ فلا عادَ الأنامُ على وصالٍ مع الأصحابِ في زمنِ المآسي فصارَ الكلُّ مشغولاً بنفعٍ لهمْ ...