الحلم
صحت على حلم كان يتغنى بتراتيل العشق المدفونة في أعماقها، يكلمها بمفردات منسوجة من همسات الأمس القريب، يحاكي انكسارات روحها بمقامات غجرية هاربة من بين درفات قلبها المجروح بمخالب من كان حبيبها، ذاك الحبيب الهيروديسّي الذي صلب ودادها على خشبة ملعونة عفنة مليئة بمستعمرات من التسوس.
أمالت بجسدها المتعب وجلست على عتبات ذاك الحلم الموشح بشال ملطخ بسواد من ريشة الظلام، فلمحته يجرف ذكريات السنين الماضية ويقذفها في وادي محزن على وسادة الألم، تنتقل من سرداب مظلم رطب إلى سرداب أشد ظلمة ورطوبة، وبأناملها الناعمة المرتجفة تكتب بضعة كلمات على وسادتها المبللة وترحل لذاتها تكلمها :
هكذا ستكون أيامي معه رغم كل بيارق الأمل التي تمزقت حين أطفأت الأنوار وافتتح الستار وبان عارياً على خشبة مسرح الحياة، حينها جمعت دموعها الحارقة وقذفتها في دهاليز النسيان ومسحت صباغ الحزن من على وجهها وهبت لتفتح نوافذ غرفتها لتستنشق بواكير نسائم ربيعها القادم، تلك النسائم المعطرة برياحين الحنين إلى الذات، ونظرت محدقة لتعمّد روحها بقطرات الندى المنثورة على صفحات أوراق الحياة، وقررت أن تغيب عن مملكته بعد أن لملمت أطرافها المتعبة ومسدت بأكفها جسدها المقهور منذ أول ليلة انفرد بها معاً حتى ليلة أمس، حين ثارت عاصفة هوجاء بداخله، وتعرت جذور تربيته المتعثرة، وصب جام غضبه عليها ولامها وضربها على ذنب لم تقترفه سوى أنها ذهبت لزيارة والديها للاطمئنان على صحة والدتها، مع أن ذهابها كان بعلمه وموافقته، وتتذكر جيداً ما دار بينهما من حديث ليلة الأربعاء، فتكتب تفاصيله على أسطر من أنفاسها المتطايرة إلى مسامع والدها قائلة: في تلك الليلة بعد أن اطمأنت على نوم الأطفال، رتبت غرفة الطعام والمطبخ ووضعت كل شيء في مكانه، وتوجهتُ إليه لأجده جالساً أمام التلفاز يتابع مباراة بكرة القدم فبادرته بالسؤال:
ماذا ترغب أن أطهو غداً ؟ أجاب:
كما ترغبين لأنني غداً سأكون مشغولاً بقدوم خبير من الشركة التي نتعامل معها، وسنتناول طعام الغداء في المطعم ولن ينتهي عملي معه إلا لوقت متأخر.
سألته: إذن ما رأيك أن أنشغل بترتيب البيت غداً، ويوم الجمعة نزور أهلي، خاصة وأن أخي وعائلته سيكونون في دار أهلي منذ الصباح، فأولادنا يلعبون مع أولادهم، وأنا بدوري أهتم بترتيب بيتهم، وأنهي بعض الأعمال المنزلية مثل غسل ثيابهم وكيّها، وأساعد والدتي على الاستحمام.
أجاب: لقد وعدت والدي وأخوتي بأن نذهب جميعاً يوم الجمعة إلى لمزرعة برفقة النسوة والأولاد، وبإمكانك أن تزوري أهلك غداً صباحاً، وأنا بدوري سأنضم إليكم لاحقاً ومعي مستلزمات العشاء كافة.
أجابته: حسناً، كما ترغب، وهذا كل ما حصل.
الأب: حقاً، لقد فاجأتمونا بزيارتكم وسررنا بوجودكم معنا، وحين ذهبتم من عندنا كنتم سعداء، فماذا حصل فيما بعد؟
تمسح دموعها وتردد همساً:
نعم سررنا وسعدنا ولكن سعادتنا لم تكتمل.
الأب: لا تبكي يا بنتي، فأنا أخاف على عيونك من دموع الفرح، فما بالك من دموع الحزن، والآن اهدئي واخبريني ماذا حصل معكم ليلة أمس؟
هند: في طريق العودة لم يتكلم أبداً سوى أنه من وقت لآخر كان يصرخ في وجه الأولاد ويؤنبهم على أية حركة أو سؤال طفولي يصدر منهم، وما إن دخلنا باب الدار حتى بدأ يَلعن يومه المشؤوم وسوء طالعه. فبادرته بابتسامة وسألته:
ماذا بك يا بن عمي ؟ هل أنت متعب؟
حينها التفت إلي غاضباً ورمقني بنظرات حارقة وكأنها شهب نارية، وقال: أيهمك أمري؟ وتابع أي ابن عم تقصدين؟
ابتسمتُ وأجبتهُ : أنت بالطبع لأنك حبيبي وأبو أولادي وليس لي سواك.
أجابني: ولم لا ... ربما خالد.
سألته وأنا أقترب منه أكثر وأمازحه:
أي خالد تقصد ؟
خالد ابن عمك طبعاً، وهل يوجد أحد سواه؟
هل أنت مقتنع بما تقول يا حبيبي ؟
أجاب فوراً : لا تقولي حبيبي و سأل صارخاً:
ما سبب سعادتك وذاك الفرح الذي كان يغمرك عندما التقيت بك في دار أهلك؟ ولماذا لم تخبريني بأن خالد سيزور أهلك هذا اليوم؟
من أين لي أن أعرف؟
من أهلك طبعاً.
زيارته كانت مفاجأ لأهلي أيضاً.
استهزأ بجوابي وقال:
لم أفهم وضحّي لي. أجبته:
في حوالي الساعة الواحدة ظهراً، جاء خالد مع زوجته الفرنسية وأولاده لزيارة أهلي والاطمئنان على صحة والدتي، حيث سمعته يقول لوالدي بأنه قدم من فرنسا منذ ثلاثة أيام، وعلم من والديه بمرض والدتي، فأحب أن يطمئن عليها. أجاب:
حسناً فليكن كما تدعين. فلماذا لم تعودي إلى البيت فوراً؟
سألته: لماذا أعود؟ وما الضرر في وجود ابن عمي هناك؟
أجاب غاضباً: يجب أن تعرفي جيداً بأن من واجب المرأة المتزوجة حماية شرفها، وصون سمعة زوجها، وأنت لم تفعلي ذلك، فبدلاً من أن تعودي إلى بيتك فوراً، بقيت جالسة معه وتناولتما طعام الغداء معاً، وتسامرتما وتبادلتما النظرات، وبالتأكيد تذكرتما أيام زمان.
سألته والحيرة قد تلبستني: أي أيام زمان يا رجل؟ سامحك الله.
أجاب : قلت لي يوماً بأنه كان يحبك؟
أجبت: كان ذلك أيام المراهقة، وحبه لي كان من جانب واحد، والحقيقة لم يكن حباً عاطفياً، بل كان أحد أنواع حب التملك، وذلك بسبب العادات والتقاليد التي تربى عليها، ظنَّ أنني ملك له كوني ابنة عمه، وأن من واجبه أن يحبني ومن واجبي أن أكون زوجة له، وكان يعتبر موقفه هذا حقاً شرعياً له، وبعد أن سافر إلى فرنسا بقصد الدراسة لم يعد منذ ذاك الوقت إلى الوطن، وتزوج من فرنسية واستقر هناك، وهذا هو كل شيء عن ابن عمي خالد.
أجاب وعلامات الغيرة والشك بادية على محيّاه: كل هذا الكلام الذي نطقت به لا يبرئك ولا يسمح لك بالبقاء في بيت أهلك بوجوده، لأن بذور الحب تبقى مدفونة في تجاويف النفس البشرية مهما طال الزمن، ومع ظهور أول بصيص أمل لها أو لقاء مع حبيب كان غائباً، تتفتح مجدا لتنشر عبق عطرها وتبسط ظلالها.
أجبته وشعور من المهانة يمزقني ويهشم ضلوعي: إذن حسب رأيك وتحليلك، أنت مازلت تحب ابنة عمك وتعشقها وترغبها، كونك أحببتها يوماً ورغبت بالزواج منها، ولكن للأسف فضلَتْ عليك زوجها الحالي كما صرحت لي يوماً بسبب غناه رغم كبر سنّه، ومع ذلك أجدك حريصاً على تبادل الزيارات معهم ومرافقتهم في كل سهراتهم ورحلاتهم، وتخطط بأن تشارك زوجها بمشروع تجاري رغم سماجته وسوء طباعه، ورغم ذلك لم يراودني الشك بك يوماً، ولم أسألك أو أطلب منك توضيحاً عن أسباب حرصك الشديد لتمتين علاقتنا بهم.
أجاب غاضباً:
هذا ليس من شأنك ولا يحق لك حتى السؤال. أجبته:
كيف لا يحق لي ؟ وأنت تخطط لتخون وربما خنتني.
أجاب بتفاخر وإصرار:
أنا ذكر ويحق لي أن أفعل ما لا يحق لك، ومن اليوم وصاعداً محرم عليك زيارة أهلك، لأن والدك لو كان رجلاً ويفهم بالتقاليد والأصول لكان أدرك واجبه وعرف كيف يتصرف لحماية سمعته وشرف ابنته، وأمرك بالعودة إلى البيت فوراً حين مجيء خالد.
الأب: وماذا حصل بعد هذا الجدال الساقط؟
وبعد صمت طويل وعيون دامعة قالت:
منذ تلك اللحظة تهت في ذاتي أبحث عن كرامتي، وأدركت أن الإنسان عندما يحاول أن يبتلع مرارة الذل والهوان فسوف يختنق ويموت تافهاً، في تلك اللحظة القاسية شعرت بأن مارداً قد انبعث من داخلي وأجابه عوضاً عني وقال: سوف أزورهم مهما كانت العواقب.
حينها صرخ وقال: أترفضين أمري؟
وسبقت يده كلماته وصفعني على خدي.
حينها أجبته وأنا غارقة في مستنقع من المهانة والظلم: افهمها كما تشاء.
وما إن سمع جوابي حتى استيقظ في داخله عفريت الشرق رافضاً الرجوع للسكينة قبل إرضائه، فأقسم يميناً بالطلاق إذا رفضت أمره وزرتكم.
وقبل أن أغادر المنزل صباح هذا اليوم كتبت له على الوسادة :
(لا أرغب العيش مع إنسان يستغل تعاليم ربه إرضاء لذكورته) .
وبكلمات متعثرة الخطوات تناثرت على شفاهها الحزينة تابعت قولها:
وها أنا هنا اليوم عندك يا أبي وأولادي أمانة عندك.وأنا الآن امرأة مطلقة.
أجاب الأب بعد أن مسح دموعها الحارقة بصفحة كفه الحنون:
لا تحزني يا بنتي. أنت الآن حرة ولست مطلقة واعلمي أن من صفات الذكر الشرقي عادة أن يحرق كل شيء يذكره بكابوس قادم من الماضي.
وضمها إلى صدره وقبّل جبينها وامتزجت أنفاسه بأنفاسها وقال:
نحن مشتاقون لظلّك وحنانك يا بنتنا الغالية.
انتهت
صحت على حلم كان يتغنى بتراتيل العشق المدفونة في أعماقها، يكلمها بمفردات منسوجة من همسات الأمس القريب، يحاكي انكسارات روحها بمقامات غجرية هاربة من بين درفات قلبها المجروح بمخالب من كان حبيبها، ذاك الحبيب الهيروديسّي الذي صلب ودادها على خشبة ملعونة عفنة مليئة بمستعمرات من التسوس.
أمالت بجسدها المتعب وجلست على عتبات ذاك الحلم الموشح بشال ملطخ بسواد من ريشة الظلام، فلمحته يجرف ذكريات السنين الماضية ويقذفها في وادي محزن على وسادة الألم، تنتقل من سرداب مظلم رطب إلى سرداب أشد ظلمة ورطوبة، وبأناملها الناعمة المرتجفة تكتب بضعة كلمات على وسادتها المبللة وترحل لذاتها تكلمها :
هكذا ستكون أيامي معه رغم كل بيارق الأمل التي تمزقت حين أطفأت الأنوار وافتتح الستار وبان عارياً على خشبة مسرح الحياة، حينها جمعت دموعها الحارقة وقذفتها في دهاليز النسيان ومسحت صباغ الحزن من على وجهها وهبت لتفتح نوافذ غرفتها لتستنشق بواكير نسائم ربيعها القادم، تلك النسائم المعطرة برياحين الحنين إلى الذات، ونظرت محدقة لتعمّد روحها بقطرات الندى المنثورة على صفحات أوراق الحياة، وقررت أن تغيب عن مملكته بعد أن لملمت أطرافها المتعبة ومسدت بأكفها جسدها المقهور منذ أول ليلة انفرد بها معاً حتى ليلة أمس، حين ثارت عاصفة هوجاء بداخله، وتعرت جذور تربيته المتعثرة، وصب جام غضبه عليها ولامها وضربها على ذنب لم تقترفه سوى أنها ذهبت لزيارة والديها للاطمئنان على صحة والدتها، مع أن ذهابها كان بعلمه وموافقته، وتتذكر جيداً ما دار بينهما من حديث ليلة الأربعاء، فتكتب تفاصيله على أسطر من أنفاسها المتطايرة إلى مسامع والدها قائلة: في تلك الليلة بعد أن اطمأنت على نوم الأطفال، رتبت غرفة الطعام والمطبخ ووضعت كل شيء في مكانه، وتوجهتُ إليه لأجده جالساً أمام التلفاز يتابع مباراة بكرة القدم فبادرته بالسؤال:
ماذا ترغب أن أطهو غداً ؟ أجاب:
كما ترغبين لأنني غداً سأكون مشغولاً بقدوم خبير من الشركة التي نتعامل معها، وسنتناول طعام الغداء في المطعم ولن ينتهي عملي معه إلا لوقت متأخر.
سألته: إذن ما رأيك أن أنشغل بترتيب البيت غداً، ويوم الجمعة نزور أهلي، خاصة وأن أخي وعائلته سيكونون في دار أهلي منذ الصباح، فأولادنا يلعبون مع أولادهم، وأنا بدوري أهتم بترتيب بيتهم، وأنهي بعض الأعمال المنزلية مثل غسل ثيابهم وكيّها، وأساعد والدتي على الاستحمام.
أجاب: لقد وعدت والدي وأخوتي بأن نذهب جميعاً يوم الجمعة إلى لمزرعة برفقة النسوة والأولاد، وبإمكانك أن تزوري أهلك غداً صباحاً، وأنا بدوري سأنضم إليكم لاحقاً ومعي مستلزمات العشاء كافة.
أجابته: حسناً، كما ترغب، وهذا كل ما حصل.
الأب: حقاً، لقد فاجأتمونا بزيارتكم وسررنا بوجودكم معنا، وحين ذهبتم من عندنا كنتم سعداء، فماذا حصل فيما بعد؟
تمسح دموعها وتردد همساً:
نعم سررنا وسعدنا ولكن سعادتنا لم تكتمل.
الأب: لا تبكي يا بنتي، فأنا أخاف على عيونك من دموع الفرح، فما بالك من دموع الحزن، والآن اهدئي واخبريني ماذا حصل معكم ليلة أمس؟
هند: في طريق العودة لم يتكلم أبداً سوى أنه من وقت لآخر كان يصرخ في وجه الأولاد ويؤنبهم على أية حركة أو سؤال طفولي يصدر منهم، وما إن دخلنا باب الدار حتى بدأ يَلعن يومه المشؤوم وسوء طالعه. فبادرته بابتسامة وسألته:
ماذا بك يا بن عمي ؟ هل أنت متعب؟
حينها التفت إلي غاضباً ورمقني بنظرات حارقة وكأنها شهب نارية، وقال: أيهمك أمري؟ وتابع أي ابن عم تقصدين؟
ابتسمتُ وأجبتهُ : أنت بالطبع لأنك حبيبي وأبو أولادي وليس لي سواك.
أجابني: ولم لا ... ربما خالد.
سألته وأنا أقترب منه أكثر وأمازحه:
أي خالد تقصد ؟
خالد ابن عمك طبعاً، وهل يوجد أحد سواه؟
هل أنت مقتنع بما تقول يا حبيبي ؟
أجاب فوراً : لا تقولي حبيبي و سأل صارخاً:
ما سبب سعادتك وذاك الفرح الذي كان يغمرك عندما التقيت بك في دار أهلك؟ ولماذا لم تخبريني بأن خالد سيزور أهلك هذا اليوم؟
من أين لي أن أعرف؟
من أهلك طبعاً.
زيارته كانت مفاجأ لأهلي أيضاً.
استهزأ بجوابي وقال:
لم أفهم وضحّي لي. أجبته:
في حوالي الساعة الواحدة ظهراً، جاء خالد مع زوجته الفرنسية وأولاده لزيارة أهلي والاطمئنان على صحة والدتي، حيث سمعته يقول لوالدي بأنه قدم من فرنسا منذ ثلاثة أيام، وعلم من والديه بمرض والدتي، فأحب أن يطمئن عليها. أجاب:
حسناً فليكن كما تدعين. فلماذا لم تعودي إلى البيت فوراً؟
سألته: لماذا أعود؟ وما الضرر في وجود ابن عمي هناك؟
أجاب غاضباً: يجب أن تعرفي جيداً بأن من واجب المرأة المتزوجة حماية شرفها، وصون سمعة زوجها، وأنت لم تفعلي ذلك، فبدلاً من أن تعودي إلى بيتك فوراً، بقيت جالسة معه وتناولتما طعام الغداء معاً، وتسامرتما وتبادلتما النظرات، وبالتأكيد تذكرتما أيام زمان.
سألته والحيرة قد تلبستني: أي أيام زمان يا رجل؟ سامحك الله.
أجاب : قلت لي يوماً بأنه كان يحبك؟
أجبت: كان ذلك أيام المراهقة، وحبه لي كان من جانب واحد، والحقيقة لم يكن حباً عاطفياً، بل كان أحد أنواع حب التملك، وذلك بسبب العادات والتقاليد التي تربى عليها، ظنَّ أنني ملك له كوني ابنة عمه، وأن من واجبه أن يحبني ومن واجبي أن أكون زوجة له، وكان يعتبر موقفه هذا حقاً شرعياً له، وبعد أن سافر إلى فرنسا بقصد الدراسة لم يعد منذ ذاك الوقت إلى الوطن، وتزوج من فرنسية واستقر هناك، وهذا هو كل شيء عن ابن عمي خالد.
أجاب وعلامات الغيرة والشك بادية على محيّاه: كل هذا الكلام الذي نطقت به لا يبرئك ولا يسمح لك بالبقاء في بيت أهلك بوجوده، لأن بذور الحب تبقى مدفونة في تجاويف النفس البشرية مهما طال الزمن، ومع ظهور أول بصيص أمل لها أو لقاء مع حبيب كان غائباً، تتفتح مجدا لتنشر عبق عطرها وتبسط ظلالها.
أجبته وشعور من المهانة يمزقني ويهشم ضلوعي: إذن حسب رأيك وتحليلك، أنت مازلت تحب ابنة عمك وتعشقها وترغبها، كونك أحببتها يوماً ورغبت بالزواج منها، ولكن للأسف فضلَتْ عليك زوجها الحالي كما صرحت لي يوماً بسبب غناه رغم كبر سنّه، ومع ذلك أجدك حريصاً على تبادل الزيارات معهم ومرافقتهم في كل سهراتهم ورحلاتهم، وتخطط بأن تشارك زوجها بمشروع تجاري رغم سماجته وسوء طباعه، ورغم ذلك لم يراودني الشك بك يوماً، ولم أسألك أو أطلب منك توضيحاً عن أسباب حرصك الشديد لتمتين علاقتنا بهم.
أجاب غاضباً:
هذا ليس من شأنك ولا يحق لك حتى السؤال. أجبته:
كيف لا يحق لي ؟ وأنت تخطط لتخون وربما خنتني.
أجاب بتفاخر وإصرار:
أنا ذكر ويحق لي أن أفعل ما لا يحق لك، ومن اليوم وصاعداً محرم عليك زيارة أهلك، لأن والدك لو كان رجلاً ويفهم بالتقاليد والأصول لكان أدرك واجبه وعرف كيف يتصرف لحماية سمعته وشرف ابنته، وأمرك بالعودة إلى البيت فوراً حين مجيء خالد.
الأب: وماذا حصل بعد هذا الجدال الساقط؟
وبعد صمت طويل وعيون دامعة قالت:
منذ تلك اللحظة تهت في ذاتي أبحث عن كرامتي، وأدركت أن الإنسان عندما يحاول أن يبتلع مرارة الذل والهوان فسوف يختنق ويموت تافهاً، في تلك اللحظة القاسية شعرت بأن مارداً قد انبعث من داخلي وأجابه عوضاً عني وقال: سوف أزورهم مهما كانت العواقب.
حينها صرخ وقال: أترفضين أمري؟
وسبقت يده كلماته وصفعني على خدي.
حينها أجبته وأنا غارقة في مستنقع من المهانة والظلم: افهمها كما تشاء.
وما إن سمع جوابي حتى استيقظ في داخله عفريت الشرق رافضاً الرجوع للسكينة قبل إرضائه، فأقسم يميناً بالطلاق إذا رفضت أمره وزرتكم.
وقبل أن أغادر المنزل صباح هذا اليوم كتبت له على الوسادة :
(لا أرغب العيش مع إنسان يستغل تعاليم ربه إرضاء لذكورته) .
وبكلمات متعثرة الخطوات تناثرت على شفاهها الحزينة تابعت قولها:
وها أنا هنا اليوم عندك يا أبي وأولادي أمانة عندك.وأنا الآن امرأة مطلقة.
أجاب الأب بعد أن مسح دموعها الحارقة بصفحة كفه الحنون:
لا تحزني يا بنتي. أنت الآن حرة ولست مطلقة واعلمي أن من صفات الذكر الشرقي عادة أن يحرق كل شيء يذكره بكابوس قادم من الماضي.
وضمها إلى صدره وقبّل جبينها وامتزجت أنفاسه بأنفاسها وقال:
نحن مشتاقون لظلّك وحنانك يا بنتنا الغالية.
انتهت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق