الحرية
مع نهايات جدائل الليل الراحل وقدوم صرخات الفجر الأولى .. يبحث عن حذائه خلف عتبة الباب لينتعله ويهم بالخروج من الدار مع حرصه الشديد على إغلاقه بهدوء خوفاً من إيقاظ أفراد الدار الغارقين في نوم عميق، وكل منهم محلق على أجنحة أحلامه.
يقطن في الطابق الأخير. لذلك عليه أن ينزل عشرات الدرجات كل صباح ليصل إلى الطابق الأرضي بينما لايزال النوم مكبلاً أجفانه، ليجد نفسه خلال لحظات خارج المبنى واقفاً بجانبه، يتبادل معه تحية الصباح وينتظران معاً باص الشركة الصديق الوفي لأبي وائل منذ التحاقه بالوظيفة مباشرة بعد تخرجه في كلية العلوم الاقتصادية قبل سبعة وعشرين عاماً. حينها كان عازباً ووحيداً على ثلاث بنات، وبعد زواجه انتقل من حي إلى آخر إلى أن استقر أخيراً في أحد أطراف المدينة. في شقة سكنية استلمها بعد ربع قرن من التعب والحرمان من أمراء الجمعيات السكنية. وطوال هذه السنين كان هو وأم وائل يوفران ويخططان ويحلمان بالمنزل الجديد المطل على وادي الذئاب في منطقة الحجارة. لكن القدر كان متضامناً مع قسوة قلوب أصحاب الأمر. إذ توفيت أم وائل قبل إتمام تجهيز المنزل من الأثاث والمفروشات وكان المبنى أيضاً بحاجة لبعض الإكمالات العامة وتجهيز الأرصفة ومد خطوط الهاتف.
وماهي إلا دقائق حتى توقف الباص، وأبو حمدو المتربع خلف المقود وبيده لفافة من التبغ يبادر بإلقاء التحية قائلاً:
- صباح الخير يا أستاذ خالد.كيف حالك ايوم؟
أبو وائل: صباح الخير ياسعيد، الحمد لله.
أبو حمدو: بعد عشر سنوات ستصبح هذه المنطقة غير شكل.
أبو وائل: إن شاء الله، عندما يتساوى شرق المدينة مع مغربها بكل شيء.
جلس أبو وائل على مقعده خلف السائق مباشرة، وغاص في أحلامه وأفكاره وهو يراقب أحياء المدينة والاختلافات المتباينة فيما بينها من حيث الجمال العمراني والحدائق والنظافة ومخالفات البناء. وبين الفينة والأخرى كان يرد التحية على الموظفين الصاعدين إلى الحافلة ويراقب ملامح وجوههم ويقرأ أفكارهم لمعرفته التامة بهم. فهو أقدمهم وأكبرهم سناً ولديه الخبرة الكافية لتقييم كل واحد منهم وترجمة تحيته وابتسامته بدقة وأمانة.
فنصفهم مايزال النوم مختبئاً تحت أجفانهم بسبب عملهم ليلاً في القطاع الخاص، وبعض الموظفات يتمايلن على أمواج هموم أسرهنّ، وهنّ يلهث منذ الصباح الباكر لتوصيل أولادهن إلى دور الحضانة، أما العازبات وقبل موعد قدوم الباص بساعة من الزمن ينشغلن في ترميم ما أفسده تعب السهر على وجوههن وهن يتابعن برامج ملكات الجمال والأزياء ومسابقات الغناء والرقص العربي.
وقبل آخر منعطف باتجاه الطريق العام يصعد محاسب الكازية ومندوب العمال وفي يد كل منهما حقيبة وكيس أسود كبير. حاملين معهما طلبات خاصة بحاجة لبعض التواقيع، ودخاناً وبضائع مهربة من ساعات ومواد تجميل وعطور. مستغلين حاجة الموظفين وخاصة بعد منتصف الشهر لأنَّ الراتب قد تبخّر بسبب حرارة الأسعار الحارقة والمتزايدة باستمرار. فيتم بيعهم المواد بضمانة الراتب بعيداً عن أنظار الجهات المختصة. وموظفون آخرون يستخدمون مكاتبهم لبيع الألبسة الوطنية ومواد غذائية وأشغال يدوية. لذا يردد بينه وبين نفسه "ولله في خلقه شؤون" عدة مرات وهو ينظر إلى المندوبَين ويقارن بين تصرفاتهما وأفعالهما بانتمائهما الحزبي وصراخهما في المناسبات الوطنية.
أخيراً تعانقت دواليب الباص مع الطريق العام وتحابت وتماشت معاً يميناً ويساراً باتجاه الشركة التي تبعد عشرات الكيلومترات عن حدود المدينة.
وفجأة في ذاك اليوم الربيعي، شعر أبو وائل بأن أوتار روحه وجزيئات أنفاسه بدأت تتناغم طرباً على جباه نسيمات الهواء المحملة بعبق رياحين الربيع الذي بدأ يسربل الطبيعة بثوبه الفضفاض المرصع بأزهار الحب والفرح، حينها بدأ خالد يحلم بيوم الخلاص من الوظيفة ليتحرر من قيود مواقيت الزمن، وليتفرغ لمستقبل أولاده ويتعايش معهم بهدوء وسكينة، وليستمتع بنوم هادئ خال من تشوهات هذا الزمن المجنون بكل ملامحه وأطيافه ومبرراته المغروسة في عقول أغلبية الناس، فهذا يحلل الرشوة، وذاك يحلل التهريب ورجال الأعمال يحللون التهرب الضريبي، والقانون السائد بشكل عام شعاره " الغاية تبرر الوسيلة. ويتمادى أبو وائل في خياله ليؤكد بأن أغلبية المسؤولين والقائمين على إدارة القطاع العام يحللون استغلال هذا القطاع وسرقته وحتى إعدامه.
ولم يغب عن خياله الشباب الذين ينادون بالتفكك الأسري بتشويههم مفهوم الحرية الشخصية حسب آراء مصممي الأفكار الحديثة كالفوضى الخلاقة وغيرها. وكذلك أمراء القرار وقادة الأحزاب والتجمعات المهنية الذين يعملون ليل نهار على تقوية مراكزهم وتثبيتها ويتشدقون بالشفافية والعدالة الاجتماعية. حتى تاه الشعب وضلّ طريقه بين مفاهيم السلام والاستسلام وبين المقاومة والإرهاب وبين الشهادة والإجرام. كما تاه هو في ذاته متسائلاً:
ألم يحن الوقت لأرتاح في هذا الزمن، زمن التحولات الكبرى، وخاصة أنني مضطر لأن أقوم بدور الأب والأم معاً، وأتفرغ لترميم علاقاتي الاجتماعية، وقبل أن يتخذ القرار داهمه الوقت مسرعاً ليجد نفسه جالساً خلف مكتبه وبين يديه مجموعة من الأوراق مدون عليها ما أنجزه مساء في البيت.
وما إن بدأ باحتساء قهوته الصباحية المفضلة حتى سمع رنين الهاتف وصوت سكرتيرة المدير من الطرف الآخر تبلغه بحضور اجتماع مع سيادته بعد نصف ساعة لمناقشة توزيع الساعات الإضافية والمكافآت الإنتاجية .
أغلق سماعة الهاتف وتابع يرتشف قهوته وترتيب أوراقه وتنظيم أفكاره. ليفاجأ بإحدى بنات أفكاره قد هربت وانزلقت إلى تجاويف روحه؛ لتعبث بأوتارها وتوقظ أمانيه وآماله. حينها بدأ يكلم نفسه:
أليس في الدنيا نهاية للعقوبات النفسية؟
متى نتحرر نحن أصحاب الدخل المحدود من أعباء الحياة؟
متى ترتاح مسامعنا من خطابات رؤسائنا وكذبهم وهم يتشدقون بالمثالية والعدالة والوطنية؟
ألم يحن الوقت كي نستمتع بضحكات الأطفال وأغاني فيروز وروائع أم كلثوم؟ إلام ننتظر الموت ليخلصنا؟
ومن دون أن يغيب هدف الاجتماع المرتقب عن ذاكرته وتصوراته. خاصة وأن أصحاب المصلحة الشخصية والفاعلين على خط الإنتاج غائبون عن الاجتماع. والحضور مقتصر على المسؤول الأمني وأمين السر ورئيس الجمعية السكنية وضابط الآليات ورئيس لجنة الندوة والموجه السياسي ومندوب العمال المنتدب من إحدى الجهات، أما حضوره فكان مقتصراً على شاهد زور وآمر صرف لتوزيع الغنائم على أفراد جوقة المتزلفين المتخصصين بالهتافات أثناء زيارة المسؤولين العظماء، وتابع يكلم نفسه:
حتى لو حاولت أن أناقش أي بند أو أقترح أو أعترض على قرار ما من قراراتهم فستوجه إلي مجموعة من الاتهامات السياسية والفكرية وعدم الالتزام برأي الأكثرية وفي أحسن الأحوال سيتهمونني بزعامة حزب وهمي من بنات أفكاري وأهل الكهف وسكان المقابر.
دارت رحى الحرب في داخله وتطاير الغبار العالق على جسد أحلامه وانطلق من داخله سهم كومضة البرق مذيلاً بكلمة كانت مدفونة في ذاته، فتناول على الفور ورقة بيضاء وعنونها بالخط العريض: طلب الاستقالة (الحرية).
انتهت
مع نهايات جدائل الليل الراحل وقدوم صرخات الفجر الأولى .. يبحث عن حذائه خلف عتبة الباب لينتعله ويهم بالخروج من الدار مع حرصه الشديد على إغلاقه بهدوء خوفاً من إيقاظ أفراد الدار الغارقين في نوم عميق، وكل منهم محلق على أجنحة أحلامه.
يقطن في الطابق الأخير. لذلك عليه أن ينزل عشرات الدرجات كل صباح ليصل إلى الطابق الأرضي بينما لايزال النوم مكبلاً أجفانه، ليجد نفسه خلال لحظات خارج المبنى واقفاً بجانبه، يتبادل معه تحية الصباح وينتظران معاً باص الشركة الصديق الوفي لأبي وائل منذ التحاقه بالوظيفة مباشرة بعد تخرجه في كلية العلوم الاقتصادية قبل سبعة وعشرين عاماً. حينها كان عازباً ووحيداً على ثلاث بنات، وبعد زواجه انتقل من حي إلى آخر إلى أن استقر أخيراً في أحد أطراف المدينة. في شقة سكنية استلمها بعد ربع قرن من التعب والحرمان من أمراء الجمعيات السكنية. وطوال هذه السنين كان هو وأم وائل يوفران ويخططان ويحلمان بالمنزل الجديد المطل على وادي الذئاب في منطقة الحجارة. لكن القدر كان متضامناً مع قسوة قلوب أصحاب الأمر. إذ توفيت أم وائل قبل إتمام تجهيز المنزل من الأثاث والمفروشات وكان المبنى أيضاً بحاجة لبعض الإكمالات العامة وتجهيز الأرصفة ومد خطوط الهاتف.
وماهي إلا دقائق حتى توقف الباص، وأبو حمدو المتربع خلف المقود وبيده لفافة من التبغ يبادر بإلقاء التحية قائلاً:
- صباح الخير يا أستاذ خالد.كيف حالك ايوم؟
أبو وائل: صباح الخير ياسعيد، الحمد لله.
أبو حمدو: بعد عشر سنوات ستصبح هذه المنطقة غير شكل.
أبو وائل: إن شاء الله، عندما يتساوى شرق المدينة مع مغربها بكل شيء.
جلس أبو وائل على مقعده خلف السائق مباشرة، وغاص في أحلامه وأفكاره وهو يراقب أحياء المدينة والاختلافات المتباينة فيما بينها من حيث الجمال العمراني والحدائق والنظافة ومخالفات البناء. وبين الفينة والأخرى كان يرد التحية على الموظفين الصاعدين إلى الحافلة ويراقب ملامح وجوههم ويقرأ أفكارهم لمعرفته التامة بهم. فهو أقدمهم وأكبرهم سناً ولديه الخبرة الكافية لتقييم كل واحد منهم وترجمة تحيته وابتسامته بدقة وأمانة.
فنصفهم مايزال النوم مختبئاً تحت أجفانهم بسبب عملهم ليلاً في القطاع الخاص، وبعض الموظفات يتمايلن على أمواج هموم أسرهنّ، وهنّ يلهث منذ الصباح الباكر لتوصيل أولادهن إلى دور الحضانة، أما العازبات وقبل موعد قدوم الباص بساعة من الزمن ينشغلن في ترميم ما أفسده تعب السهر على وجوههن وهن يتابعن برامج ملكات الجمال والأزياء ومسابقات الغناء والرقص العربي.
وقبل آخر منعطف باتجاه الطريق العام يصعد محاسب الكازية ومندوب العمال وفي يد كل منهما حقيبة وكيس أسود كبير. حاملين معهما طلبات خاصة بحاجة لبعض التواقيع، ودخاناً وبضائع مهربة من ساعات ومواد تجميل وعطور. مستغلين حاجة الموظفين وخاصة بعد منتصف الشهر لأنَّ الراتب قد تبخّر بسبب حرارة الأسعار الحارقة والمتزايدة باستمرار. فيتم بيعهم المواد بضمانة الراتب بعيداً عن أنظار الجهات المختصة. وموظفون آخرون يستخدمون مكاتبهم لبيع الألبسة الوطنية ومواد غذائية وأشغال يدوية. لذا يردد بينه وبين نفسه "ولله في خلقه شؤون" عدة مرات وهو ينظر إلى المندوبَين ويقارن بين تصرفاتهما وأفعالهما بانتمائهما الحزبي وصراخهما في المناسبات الوطنية.
أخيراً تعانقت دواليب الباص مع الطريق العام وتحابت وتماشت معاً يميناً ويساراً باتجاه الشركة التي تبعد عشرات الكيلومترات عن حدود المدينة.
وفجأة في ذاك اليوم الربيعي، شعر أبو وائل بأن أوتار روحه وجزيئات أنفاسه بدأت تتناغم طرباً على جباه نسيمات الهواء المحملة بعبق رياحين الربيع الذي بدأ يسربل الطبيعة بثوبه الفضفاض المرصع بأزهار الحب والفرح، حينها بدأ خالد يحلم بيوم الخلاص من الوظيفة ليتحرر من قيود مواقيت الزمن، وليتفرغ لمستقبل أولاده ويتعايش معهم بهدوء وسكينة، وليستمتع بنوم هادئ خال من تشوهات هذا الزمن المجنون بكل ملامحه وأطيافه ومبرراته المغروسة في عقول أغلبية الناس، فهذا يحلل الرشوة، وذاك يحلل التهريب ورجال الأعمال يحللون التهرب الضريبي، والقانون السائد بشكل عام شعاره " الغاية تبرر الوسيلة. ويتمادى أبو وائل في خياله ليؤكد بأن أغلبية المسؤولين والقائمين على إدارة القطاع العام يحللون استغلال هذا القطاع وسرقته وحتى إعدامه.
ولم يغب عن خياله الشباب الذين ينادون بالتفكك الأسري بتشويههم مفهوم الحرية الشخصية حسب آراء مصممي الأفكار الحديثة كالفوضى الخلاقة وغيرها. وكذلك أمراء القرار وقادة الأحزاب والتجمعات المهنية الذين يعملون ليل نهار على تقوية مراكزهم وتثبيتها ويتشدقون بالشفافية والعدالة الاجتماعية. حتى تاه الشعب وضلّ طريقه بين مفاهيم السلام والاستسلام وبين المقاومة والإرهاب وبين الشهادة والإجرام. كما تاه هو في ذاته متسائلاً:
ألم يحن الوقت لأرتاح في هذا الزمن، زمن التحولات الكبرى، وخاصة أنني مضطر لأن أقوم بدور الأب والأم معاً، وأتفرغ لترميم علاقاتي الاجتماعية، وقبل أن يتخذ القرار داهمه الوقت مسرعاً ليجد نفسه جالساً خلف مكتبه وبين يديه مجموعة من الأوراق مدون عليها ما أنجزه مساء في البيت.
وما إن بدأ باحتساء قهوته الصباحية المفضلة حتى سمع رنين الهاتف وصوت سكرتيرة المدير من الطرف الآخر تبلغه بحضور اجتماع مع سيادته بعد نصف ساعة لمناقشة توزيع الساعات الإضافية والمكافآت الإنتاجية .
أغلق سماعة الهاتف وتابع يرتشف قهوته وترتيب أوراقه وتنظيم أفكاره. ليفاجأ بإحدى بنات أفكاره قد هربت وانزلقت إلى تجاويف روحه؛ لتعبث بأوتارها وتوقظ أمانيه وآماله. حينها بدأ يكلم نفسه:
أليس في الدنيا نهاية للعقوبات النفسية؟
متى نتحرر نحن أصحاب الدخل المحدود من أعباء الحياة؟
متى ترتاح مسامعنا من خطابات رؤسائنا وكذبهم وهم يتشدقون بالمثالية والعدالة والوطنية؟
ألم يحن الوقت كي نستمتع بضحكات الأطفال وأغاني فيروز وروائع أم كلثوم؟ إلام ننتظر الموت ليخلصنا؟
ومن دون أن يغيب هدف الاجتماع المرتقب عن ذاكرته وتصوراته. خاصة وأن أصحاب المصلحة الشخصية والفاعلين على خط الإنتاج غائبون عن الاجتماع. والحضور مقتصر على المسؤول الأمني وأمين السر ورئيس الجمعية السكنية وضابط الآليات ورئيس لجنة الندوة والموجه السياسي ومندوب العمال المنتدب من إحدى الجهات، أما حضوره فكان مقتصراً على شاهد زور وآمر صرف لتوزيع الغنائم على أفراد جوقة المتزلفين المتخصصين بالهتافات أثناء زيارة المسؤولين العظماء، وتابع يكلم نفسه:
حتى لو حاولت أن أناقش أي بند أو أقترح أو أعترض على قرار ما من قراراتهم فستوجه إلي مجموعة من الاتهامات السياسية والفكرية وعدم الالتزام برأي الأكثرية وفي أحسن الأحوال سيتهمونني بزعامة حزب وهمي من بنات أفكاري وأهل الكهف وسكان المقابر.
دارت رحى الحرب في داخله وتطاير الغبار العالق على جسد أحلامه وانطلق من داخله سهم كومضة البرق مذيلاً بكلمة كانت مدفونة في ذاته، فتناول على الفور ورقة بيضاء وعنونها بالخط العريض: طلب الاستقالة (الحرية).
انتهت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق